العراق.. غدا يوم آخر

18 ديسمبر 2019
+ الخط -
لم يفلح تطبيق "وصفة" المرشد الإيراني، علي خامنئي، في لقائه أخيراً مع "قوات التعبئة الشعبية" في بلاده، في كبح جماح الانتفاضة العراقية، ووقف تصدّيها للحكم، مع أن وكلاءه من العراقيين لم يقصّروا في "تجريب" كل الوسائل التي اعتقدوا أنها يمكن أن تنال من عزيمة المنتفضين وحماسهم، لكنهم جوبهوا بإصرار شباب "التحرير" وعنادهم، وتصميمهم على السير بانتفاضتهم إلى النهاية. ومهما كان حجم فاعلية الألغام التي توضع في طريقهم، ومهما كان مداها، لكأنهم يمثلون الجيل الذي تنبأ بظهوره قبل أكثر من أربعة عقود شاعر العراق الجواهري:
سينهض من صميم اليأس جيل/ مريد البأس جبار عنيد
يقايض ما يكون بما يرجى/ ويعطف ما يراد لما يريد
دعا خامنئي، في وصفته تلك، "التعبويين" الذين "يواجهون قوى الاستكبار العالمي والصهيونية"، إلى عدم التصرف في إطار ردود الأفعال ووجوب الرد على العدو بحزم، وقال لهم: "اعملوا كلاعب الشطرنج الماهر، وكونوا دائما متقدّمين خطوة على العدو، ويجب أن تتصرّفوا بروح هجومية". ولم ينس أن يذكّر مريديه بأن "شجرة التعبئة الطيبة تضم نماذج عظيمة كالحشد الشعبي في العراق وحزب الله في لبنان".
تلقف رجال المليشيات العراقيون "وصفة" خامنئي لهم بكل حماسة، وشرعوا في ترويج سردياتٍ متهافتةٍ تتوافق مع مخطط الإساءة المتعمدة لهوية الانتفاضة والمنتفضين، وأحيانا محاولة شيطنتها وشيطنتهم، وكلها لم تصمد أمام المنطق وهدفها واضح: تبرير الإجهاز على الانتفاضة وإنهائها، وهذا ما ينوون فعله اليوم. واحدة من هذه السرديات تركّز على دورٍ مفترضٍ لأميركا وإسرائيل والسعودية في الانتفاضة كصفحة من مخطط لضرب "محور المقاومة والممانعة". وثانية تزعم أن "ساحات التحرير" تحولت إلى أوكار للرذيلة والفساد، ومن الواجب كفّ أذاها عن الناس. وثالثة تحمّل الانتفاضة مسؤولية ما ارتكبته المليشيات السوداء نفسها من اغتيال وخطف وحرق، وجديدها واقعة "ساحة الوثبة"، تصحّ على السردية 
الثالثة حكاية "رمتني بدائها وانسلّت" التي عرفها أجدادنا.
وبخلاف هذه السرديات الثلاث، تحتفظ سردية الانتفاضة/ الثورة بوضوحها ونقائها وإخلاصها للحقيقة، وهي تقرّر دوما سلميتها وتصميمها على الالتزام بسلميتها إلى النهاية، وتطرح مطالبها في التغيير الشامل الذي يعيد العراق إلى العراقيين، وقد يكون مناسبا أن يضاف إلى ما سبق أن مطالب الانتفاضة/ الثورة قد لا تتحقّق دفعة واحدة. ولكن يكفي أنها أعادت الوعي إلى قطاعات عريضة من العراقيين كانت قد سلبته منهم قوى الاحتلال والهيمنة على مدى السنوات العجاف التي مرّت، ويكفي أنها كرّست الهوية الوطنية الموحدة، مستشرفة في مسيرتها آفاق مستقبل مضيء قادم، وقد تجاوزت خطط الأحزاب والحركات (الثورية)، والتي عاشت طوال العقد الأخير على اجترار ما قدمته في الماضي، من دون أن تراجع نفسها أو تنقد تجاربها، كما تجاوزت الأيديولوجيات الغابرة التي لم يبق منها سوى رائحة الورق الأسمر الذي كتبت عليه، يكفي الانتفاضة أيضا أنها هزّت عروش الذيول والأذناب الذين تصوّروا أنهم باقون على صدور الناس المقهورين إلى الأبد، وأجبرتهم على القفز على أولوياتهم، والبحث عن حلولٍ تضمن إعادة إنتاج "العملية السياسية" الماثلة، والبقاء على عروشهم فترة أطول، وقد خذلتهم "مرجعية النجف" التي يدّعون السير على نهجها، عندما تماهت مع مطالب المنتفضين الشباب، وإنْ بالحدود الدنيا التي لا يموت الذئب خلالها ولا تفنى الغنم، عندها استعصت الحلول على رجال الحكم، وأدركوا أن حصونهم لا تحميهم من غضب الناس وسخطهم، ولا تُنجيهم من شرور ما فعلوه بأنفسهم وبمواطنيهم، لكنهم وعلى الرغم من فشلهم في القضاء على الانتفاضة، أو على الأقل في إضعاف فاعليتها على الصعيد الشعبي، ظلوا يراهنون على الوصول إلى هدفهم بأية وسيلة، حتى لو أدى ذلك إلى إغراق البلاد بالدم، وعندما أعيتهم الحيل لجأوا إلى خامنئي الذي ترافق إطلاق "وصفته" لهم مع تصاعد حركة الاغتيالات والاختطافات للناشطين والمشاركين في الانتفاضة التي وصلت إلى إسطنبول (اغتيال المحامية الناشطة سجى الراوي)، وتهديد آخرين بالموت إن واصلوا احتجاجاتهم، وتواتر تقارير عن عبور قوات من الحرس الثوري، وكذا آليات عسكريةٍ متقدمةٍ منفذ زرباطية الحدودي، والتقدّم باتجاه بغداد، تردّد أنها ستشارك في عملية قمع الانتفاضة وإنهائها.
استطراداً مع هذا كله، ثمّة من ينذرنا أن الانتفاضة قد تتعرّض للانكسار أو العطب، وحتى لو حدث ذلك، فإننا نعرف تماماً أن المرء قد ينكسر، لكنه لا ينهزم أبداً، وهو ما تعلمناه من همنغواي، وغدا يوم آخر.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"