العراقيون والهويات الضيقة

02 ابريل 2017
+ الخط -
كُتب على العراق المعاناة. جملةٌ لخصها التاريخ عبر مجلداته الضخمة، وعلى الرغم من أنّ بعضهم يعتبر أنّ التاريخ لم يُكتب بعد لأنه وجهات نظر مَنْ كتبوه، ولكن العراق يُعتبر استثناءً من هذا الطرح، فالعراق والمعاناة صنوان لا يفترقان.
ربّما ليس غريباً أن يتعرّضَ بلدٌ بخيرات العراق إلى العدوان على يدِّ كلِّ طامعٍ دنيء النفس، خصوصا أنّ النظام الدولي قائمٌ برمته على نظرية "الفوضى"، فالحروب والثورات والأزمات والمشكلات وعدم الاستقرار السياسي تُعتبر سمةً بارزة لذلك النظام المعقد.
لكن الغرابة تتجلّى عندما يكون العراقيون هم من أسباب معاناة بلدهم، ومن العوائق التي وقفت في وجه تقدّمه وتطوّره، وكلّما أراد النهوض والوقوف على قدميه، غدروه بخنجرٍ في خاصرته وطرحوه أرضاً. يقول الراحل والحاضر في قلوبنا نزار قباني: طَعَنُوا العُرُوبةَ في الظلام بخنجرٍ، وأنا أقول: طَعَنُوا العراق في الضّياء بخنجرٍ.
ما يجعل العراق جميلاً تنوّع أهله، فهم يشكّلون فسيفساءَ جميلة يضفي عليهم نهرا دجلة والفرات بريقاً فريداً من نوعه، غير أنّ الفسيفساء تحوّلت إلى جحيمٍ أسود، ونهرا دجلة والفرات امتلآ حتى الثمالة بالدماء، فمن يقفُ وراء هذا التحوّل؟
العراقُ جمعَ العراقيين على اختلافهم بأرضٍ تمتلك كلّ مقومات النجاح والازدهار والرفاهية، لكنهم لم يتفقوا يوماً، وعلى الرغم من أنّهم تعايشوا وعاشوا جنباً إلى جنب، على مدار التاريخ، إلا أنّ الإنسجام لم يتحقّق بعد، وثمّة فوارق جمّة بين التعايش والإنسجام، كما يقول المناطقة.
ما "يجمع" العراقيين الآن الهويّات الدينيّة الطائفيّة والعرقيّة والمناطقيّة... وكلّ هويّةٍ ما عدا الهويّة الوطنيّة التي تعتبر السبيل الوحيد للنجاة من منزلق التشظي. ومن المفترض أن يحتشدَ العراقيون تحت مظلّتها حصراً. وهذا كان لا بدّ أن يتحقّق عندما تمّ تهميش التعليم وإقصاء المفكرين والعلماء والكفاءات والمثقفين "الحقيقيين"، وإتاحة الفرصة لأصحاب اللحى النتنة (من جميع المكوّنات) ذوي المصالح الخبيثة والفكر الإقصائي الهدام، ولكلِّ طارئ من ذوي الامتيازات لا يستحق المنصب الذي يشغل.
للأسف، لم يكن العراقيون أبداً منسجمين فيما بينهم لأسبابٍ معقدة يصعبُ الوقوف عليها في هذه الفسحة. لكن، يمكننا القول: العراقي يعشق العراق، لكنه لا يُحب الخير لأخيه العراقي، بسبب رجحان كفة الهويّات "القاتلة" كما وصفها أمين معلوف.
يقول المؤرخ العراقي، سيّار الجميل إن "العراقيين أخصب شعبٍ في اعتزازهم بأنفسهم متفرقين، ومن أكثر الشعوب إيثاراً "لهوياتهم" لا لهويتهم "الوطنية".
ربما هذه الجرأة في الطرح لا تعجب كثيرين، لكن التغيير يتطلب الجرأة الصادقة، ومصارحة الذات، بل وجلدها، وليس المكابرة والتخفي وراء فشلنا، نحن العراقيين، في التحوّط حوّل الهويّة الجامعة.
ما إن تجلسَ في أيِّ مجلسٍ عراقيٍّ يتناول أخبار العراق وهمومه ومعاناته، حتى تجدّ أن السُنيّ يلوم الشيعي، ويحمله مسؤولية ضياع العراق، لأنّه وضع يده بيد العدو الأميركي للتخلص من صدام حسين، أما الشيعي فيعاتب أخاه السُنيّ، ويقول له: إنكم حكمتم على مدار السنوات السابقة، ومرحلتكم انتهت وجاء دورنا الآن.
ولا تتوقف الاتهامات على ذلك، فالسُنة يقولون إنّ الشيعة أدخلوا إيران إلى العراق، وهم الذين مكّنوا "دولة الفرس" من التطاول على العراق والعراقيين، ويردّ عليهم الشيعة: وضعتم يدكم بيد السعودية وتركيا، وأنتم سمحتم للإرهاب بالدخول إلى أراضي العراق، انتقاماً من سياساتنا، فلماذا لا تعطونا الفرصة؟ أما الأكراد فخرجوا من هذه المهزلة، ونظروا بمصالحهم، ولا أحد يستطيع أن يلومهم على هذا الخيار.
ثمة أسئلة تقحمُ نفسها عنوةً: أين العراق من كلِّ هذا التناحر والرجعية والتخلف والتشظي والحقد بين العراقيين؟ أين مصلحة العراق أمام مصالح السُنة أو الشيعة أو أيّ مكوّنٍ آخر؟ هل الطوائف أكبر من العراق؟ لماذا لا يلتف العراقيون حول هويتهم الوطنية، والتخلّص من هوياتهم الضيقة التي خُيّل لهم عبر الأطراف الفاعلة في المنطقة أنها السبيل الوحيد إلى الخلاص؟
أيعتقد الطرفان بإمكانهما إقصاء الآخر؟ أيعتقدا أنّهما يمكن أن يعيشا من دون الآخر؟ لماذا لا يفكران بالعيش سويا؟ وبناء العراق سويا؟ وتقاسم خيرات العراق سويا؟ ما الذي يمنعهم من ذلك؟ مَنْ له المصلحة بتشظي العراقيين وتمزقهم؟
العراقيون "زُرعت" فيهم ثقافة "الثأر"، الثأر مِن مَنْ؟ من "الآخر"، لأنّ الفرد يعتقد أنّ أخاه هو سبب معاناته والسبيل الوحيد هو إقصائه والتنكيل به، وذلك كله بسبب رجحان الهويات الضيقة والتفريط بالهويّة الوطنيّة الجامعة.
5ADE5A47-E143-4BFB-9A04-F3543E66FC8B
5ADE5A47-E143-4BFB-9A04-F3543E66FC8B
بشير الكبيسي (العراق)
بشير الكبيسي (العراق)