11 نوفمبر 2024
العدالة الانتقالية والتباساتها
خلال ما يناهز نصف قرن، عرف العالم نحو مائة تجربة للعدالة الانتقالية، إذا ما أدرجنا ضمنها اتفاقيات المصالحات التي وضعت حدا لنزاعات مسلحة مزّقت مجتمعات عديدة .. استوفت أكثر من ثلثي تلك التجارب شروط العدالة الانتقالية وملامحها الكبرى، كما نصت عليها أدبيات الأمم المتحدة، أي معالجة انتهاكات حقوق الإنسان، وفتح أفق لمصالحات وطيدة. لا توجد وصفة جاهزة تهتدي بها الأمم، ولكن ذلك يقتضي، عادة، معرفة الحقيقة، ثم المصالحة غاية عليا لهذه التجارب التي تذهب إلى اتخاد إجراءات ردعية تجاه الجلادين، واعتماد حزمة من الإصلاحات التي تشمل الأجهزة الأمنية والعسكرية تحديدا، حتى لا تعاد تلك الاختبارات القاسية، مع ضرورة إشاعة قيم الغفران والتسامح في مناهج التربية والإعلام.. إلخ.
من خلال الأوراق التي قدمت في المؤتمر السنوي الثامن لقضايا الديمقراطية والتحول الديمقراطي، والذي ينظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وقد أنهى أشغاله أمس في تونس، وخصص هذه المرة ل "العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي في البلدان العربية.. السياسات والتاريخ والذاكرة"، وقف الجميع مشاركين وحضورا على تجارب عدة للعدالة الانتقالية، يعكس اختلافها تنوع طبيعة المجتمعات وتركيبتها العرقية والطائفية، علاوة على طبيعة الأنظمة السياسية التي حكمتها، وتوجهات النخب اللاحقة التي خلفتها.
التحديات الكبرى التي تواجه تجارب الانتقال على اختلافها وتنوعها هي سبل جعل ذاكرة الضحايا ذاكرة جماعية، وإمكانية تحقيق مصالحات حقيقية، تطوي صفحة الماضي، ففي حالات عديدة،
ظلت تلك الذاكرة محصورةً في دوائر ضيقة من "المناضلين القدامى" والضحايا، حتى كادت تحول ذاكرتهم إلى ذاكرة طوائف مغلقة، في حين استطاعت تجارب أخرى أن تجعل من ذاكرة الضحايا، حتى ولو كانوا أقليات عرقية ومذهبية أو دينية، ذاكرة وطنية جماعية وجامعة في الوقت نفسه. وتقدم التجربة العراقية مثالا فاشلا لعجز تحوّل ذاكرة الضحايا إلى ذاكرة وطنية، بل وارتدادها إلى ذاكرة طائفية ومذهبية تغذّي مظلومية سرمدية.
على خلاف ذلك، استطاعت حالات كثيرة، من خلال ترتيبات بيداغوجية وثقافية غزيرة، أن تحول ذاكرة الضحايا، حتى لو كانوا منتمين إلى طوائف ومذاهب أو "أقليات عرقية" إلى ذاكرة جماعية، تقدم التجربة الرواندية مثالا بارزا عن هذا الجهد.
في كل تلك التجارب، ظل مطلب التذكر ضاغطا كحد أدنى من العرفان تجاه الضحايا. ولكن النسيان الحميد ظل أيضا لا يقل نبلا عن التذكّر، خشية أن يلتهم الماضي المخيف حاضر تلك المجتمعات. ولكن هل بالإمكان فعلا أن ندرك النسيان المطلق. لقد رأينا أخيرا أن إسبانيا، وهي التي سنّت، منذ الثمانينيات، قانون النسيان، أملا في طي صفحة الماضي الأليم التي خطها فرانكو بدماء الأبرياء، تعيد في الصيف الماضي إحياء جدل سياسي وقانوني وأخلاقي بشأن ضيم ذلك القانون، وتطالب بإجراءاتٍ أكثر إكراما للضحايا. على خلاف ذلك، عمدت تجارب أخرى على إقامة متاحف ونصب وتماثيل، حتى يظل الماضي حاضرا عبرة وعرفانا.
في مجتمعاتٍ عربية، سيبدو الأمر أكثر التباسا، خصوصا في ظل ثقافةٍ لا تتيح بما يكفي إبداء مشاعر العرفان بالجميل للضحايا من جهة فيض الذاكرة وتورّمها لتصبح سردابا لا نهاية له من الذكريات الكريهة التي لا تستحضر من الماضي سوى آلامه وأحزانه. آنذاك، نكون أمام مخاطر قد يبتلع فيها الحاضر ويزرع في رحمها ماضٍ لا يجتمع سوى على قاعدة الصراع وهو مشتت ومفرّق.
السرديات التي يقدمها الضحايا عن ماضيهم لا يمكن، على الرغم من صدقها وألمها، أن تكون
موضوع مادة تاريخية، بل عادة ما تحرّش بها المؤرخون الذين يقدّمون أنفسهم حراس الحقيقة التاريخية. لقد رأينا في تونس، وغيرها من التجارب، كيف قاوم المؤرخون هيئة الحقيقة والكرامة، وتجربة العدالة الانتقالية تحديدا، اعتقادا منهم أن تلك الشهادات تهدّد "الثوابت الوطنية". والتاريخ، المدرسي منه على الأقل، ساهم في بناء هويةٍ يُخشى عليها من ذاكرة الضحايا التي توقظها العدالة الانتقالية. ولا شك أن لهؤلاء الضحايا حاجات رمزية ونفسية لا تستجيب لها كتابات المؤرخين وتفهم الفلاسفة وعلماء النفس. لذلك يشعر هؤلاء أحيانا أنهم موضوع دراسة، وليس موضوع تقدير وعناية.
لا توجب عدالة انتقالية "مثالية" على المجتمعات أن تهتدي بها. ولكن ثمة تجارب استطاعت أن تقيم ترتيبات ناجعة في طبيعة العلاقة المثلى بين ماضيها وحاضرها، بين تذكّرها ونسيانها، بين محاسبتها وغفرانها.
سيظل سؤال العدالة الانتقالية مطروحا بحدة في مجتمعاتنا العربية، خصوصا وهي قادمةٌ لا محالة على وضع حد لحالات الاستبداد العديدة في السنوات المقبلة. وقد يكون من اليسير التخلص من الاستبداد. ولكن ربما سيكون من الأصعب تجاوز مخلفاته وبناء مستقبل جدير بأن يحيا على أنقاضه.
التحديات الكبرى التي تواجه تجارب الانتقال على اختلافها وتنوعها هي سبل جعل ذاكرة الضحايا ذاكرة جماعية، وإمكانية تحقيق مصالحات حقيقية، تطوي صفحة الماضي، ففي حالات عديدة،
على خلاف ذلك، استطاعت حالات كثيرة، من خلال ترتيبات بيداغوجية وثقافية غزيرة، أن تحول ذاكرة الضحايا، حتى لو كانوا منتمين إلى طوائف ومذاهب أو "أقليات عرقية" إلى ذاكرة جماعية، تقدم التجربة الرواندية مثالا بارزا عن هذا الجهد.
في كل تلك التجارب، ظل مطلب التذكر ضاغطا كحد أدنى من العرفان تجاه الضحايا. ولكن النسيان الحميد ظل أيضا لا يقل نبلا عن التذكّر، خشية أن يلتهم الماضي المخيف حاضر تلك المجتمعات. ولكن هل بالإمكان فعلا أن ندرك النسيان المطلق. لقد رأينا أخيرا أن إسبانيا، وهي التي سنّت، منذ الثمانينيات، قانون النسيان، أملا في طي صفحة الماضي الأليم التي خطها فرانكو بدماء الأبرياء، تعيد في الصيف الماضي إحياء جدل سياسي وقانوني وأخلاقي بشأن ضيم ذلك القانون، وتطالب بإجراءاتٍ أكثر إكراما للضحايا. على خلاف ذلك، عمدت تجارب أخرى على إقامة متاحف ونصب وتماثيل، حتى يظل الماضي حاضرا عبرة وعرفانا.
في مجتمعاتٍ عربية، سيبدو الأمر أكثر التباسا، خصوصا في ظل ثقافةٍ لا تتيح بما يكفي إبداء مشاعر العرفان بالجميل للضحايا من جهة فيض الذاكرة وتورّمها لتصبح سردابا لا نهاية له من الذكريات الكريهة التي لا تستحضر من الماضي سوى آلامه وأحزانه. آنذاك، نكون أمام مخاطر قد يبتلع فيها الحاضر ويزرع في رحمها ماضٍ لا يجتمع سوى على قاعدة الصراع وهو مشتت ومفرّق.
السرديات التي يقدمها الضحايا عن ماضيهم لا يمكن، على الرغم من صدقها وألمها، أن تكون
لا توجب عدالة انتقالية "مثالية" على المجتمعات أن تهتدي بها. ولكن ثمة تجارب استطاعت أن تقيم ترتيبات ناجعة في طبيعة العلاقة المثلى بين ماضيها وحاضرها، بين تذكّرها ونسيانها، بين محاسبتها وغفرانها.
سيظل سؤال العدالة الانتقالية مطروحا بحدة في مجتمعاتنا العربية، خصوصا وهي قادمةٌ لا محالة على وضع حد لحالات الاستبداد العديدة في السنوات المقبلة. وقد يكون من اليسير التخلص من الاستبداد. ولكن ربما سيكون من الأصعب تجاوز مخلفاته وبناء مستقبل جدير بأن يحيا على أنقاضه.