هناك اعتقاد طاغٍ لدى عددٍ، ليس بضئيلٍ، من المثقفين السوريين أن الفلسطينيين لم ينصفوا قضيتهم. والقائلون بهذا الاعتقاد لا ينكرون أن عدداً يسيراً من المثقفين الفلسطينيين وقف موقفاً مناصراً للثورة السورية. سواءً أيام كانت ثوريتها ناصعةً جليةً أو بعد أن استحالت حرباً ضروساً بفعل جرائم النظام وتدخلات القوى الإقليمية.
موقف هؤلاء المثقفين السوريين يطالب بموقف أعلى صوتاً من عدد أكبر من الفلسطينيين، إن لم يكن مطالباً بموقفٍ واضحٍ من كل الفلسطينيين. هذا التوقع إشكالي إلى حدٍ بعيد. هو تجلٍّ جديد لموقف عتيق من الشخصية الفلسطينية في مخيال السوريين وغيرهم من العرب.
صورة الفلسطيني عندهم واحدة من اثنتين، فهو إما أن يكون مناضلاً أممياً فدائياً حبيساً لثقافة الستينيات والسبعينيات. وهذا الفلسطيني لا يرونه ولا يعرفونه سوى من كتاباته ومن صوره في الجرائد وعلى الشاشات. يُكِنّون له احتراماً وشيئاً من التقديس، وإن تراوَح شعورهم تجاهه بين الشفقة والتضامن من بعيد.
وهو إما أن يكون لاجئاً في أسفل الطبقة المتوسطة أو عاملاً مُياوِماً يعيش في المخيّم أو في حيٍ فقيرٍ كانوا يأنفون زيارته طوال عقود الاستبداد. إن هم رأوه في شوارع المدينة في مكان عمله أو في دكانه، نظروا إليه شزراً وحتى اشمئزازاً إذ يرون فيه سبباً سهلاً في اضطهادهم كمثقفي عواصم من قبل السلطة الدكتاتورية التي تدّعي تبنّي قضيّته.
غير أن الفلسطيني في القرن الحادي والعشرين يستعصي على أي تنميط. الفلسطيني في القرن الحادي والعشرين يكتب بالألمانية من قرى باڤاريا، ويكتب بالعربية من القدس وحيفا، وبالإنكليزية من نيويورك ولندن، وبالفرنسية من بروكسل ومونتريال.
الفلسطيني في لبنان يبحث عن عملٍ كريم وفيزا ولو إلى آخِر الأرض، والفلسطيني في عمّان يبالغ في أردنيته ويقلّص فلسطينيته سعياً وراء ترقية حكومية تضمن مستقبله في الأردن. الفلسطيني السوري اللاجئ من الجيل الرابع قد يقاتل مع الثوار في درعا، وقد يتزوج هولنديةً من أب فلسطيني من لبنان سبقه في اللجوء إلى هولندا بـ 30 سنة هرباً من ذات السبب: جنود وحدود العرب.
من المفارقات أن هؤلاء المثقّفين السوريين في أكثر لحظات تاريخهم تماهياً مع التجربة الفلسطينية يقفون موقفاً يخلو من التفهم لمعنى الفجيعة والنكبة. إنهم يصدّرون أحكاماً على الفلسطينيين لو طبّقوها على الشعب السوري ذاته لفشل أكثر من نصفه في امتحان الولاء للثورة بينما هم يدعون في الوقت عينه تمثيل أوسع قطاعات الشعب السوري.
موقف هؤلاء المثقفين النخبويين يذكّر بمواقف المثقفين المحافظين في أوروبا وأميركا. فتراهم في إثر كل عمل إرهابي يطالبون من كل مواطنٍ مسلمٍ أو عربي الظهور على الملأ وإعلان موقف مدينٍ وشاجبٍ كأن مسؤولية العمل تقع عليه شخصياً.
خَبِر الفلسطينيون، لعقود طويلة، العزلة والوحدة السياسية. وتعلموا أن عدالة القضية لا تُفضي لتضامنٍ أوتوماتيكي. ما يتمتع به الفلسطينيون اليوم من تضامن واسع في العالم مع قضيتهم إنما أتى نتيجة عملهم السياسي والثقافي الدؤوب لعشرات السنوات. تعلموا، بعد قدرٍ من الأخطاء والانتكاسات، أن قضيتهم وإن كانت عادلة وكارثية الأبعاد لا يجوز لها أن تعميهم عن ضرورات العمل التضامني من ملاقاة الآخر العربي وغير العربي على علّاته في منطقة تحترم أولويات ومشاكل وصراعات هذا الآخر.
لا يعني هذا أن على السوريين أن ينتظروا عقوداً قبل أن يروا عدالة قضيتهم ظاهرةً بيّنةً في أرجاء الأرض، ولكن مما لا شك فيه أنهم سيختصرون الطريق على أنفسهم بما لا يُقاس إن هم تعلّموا الدرس الفلسطيني. وأوله أن الفلسطيني كما السوري إنسان يصيب ويخطئ وأن عليه ترتيب أولوياته؛ فجلاء عدالة قضية ما، لا تضمن بالضرورة حتميةَ ولا تسريعَ إيجادِ حلٍ منصفٍ لأصحابها.
(نيويورك)