العبرة الأبدية من الأحزان الكمبودية

25 اغسطس 2015
+ الخط -
طريقي إلى كمبوديا انطلق تسكّعاً من جنوب فيتنام، باتجاه دلتا نهر الميكونج.
لم أزر كمبوديا بغية عطر العود الكمبودي فقط، الذي يتجاوز الإقبال عليه العطورات الغربية، في أعياد بعض الدول العربية، ولا معابد إقليم إنكور الشهيرة فقط، ولكن لأن شعب كمبوديا طيّبٌ جذّابٌ يحيّرني على الدوام: يبدو صامتًا منطويًا، فيما لم يعانِ الأمرّين شعبٌ مثله في نصف القرن الأخير.
دلتا الميكونج شبكة أنهار تتقاطع وتتفرع وتتداخل في كلّ اتجاه. تتخلّلها وتحيطها: حقول أرز تمتد إلى الـ ما لانهاية، وأرض مزدحمة بالأشجار والنباتات والغابات شديدة الاخضرار؛ للاخضرار هنا، أصنافٌ وألوانٌ ومقامات.
على ضفاف تفرّعات الميكونج وقنواته صفوفُ منازل مفتوحة على الماء والسماء، مغروسةٌ في خصوبةٍ فردوسيةٍ لا نظير لها.
في ظاهرةٍ معاكسة للتصحّر، تكتسح خصوبة دلتا الميكونج، اليابسة وتنتزع منها عشرات الأمتار سنويًا!
كلّ شيء في الدلتا متحركٌ عائم: الأعشاب، المنازل، والأسواق التجارية: تتنقل فيها بقاربك من قارب "حانوت" إلى قارب "حانوت" لشراء ما تحتاجه من السوق العائم! إنه سحرٌ خالص.
وصلتُ عبر هذه الدلتا الفيتنامية المدهشة إلى حدود كمبوديا، ثمّ إلى عاصمتها: بنوم بنه، ثمة حيث جثمت الفظاعة البشرية القصوى والشر المطلق، في أكمل تجلياتهما، قبل أربعين عامًا بالضبط: في السابع عشر من إبريل/ نيسان 1975، يوم وصول الخمير الحمر يقودهم "بول بوت" إلى الحكم.

اقرأ أيضاً: في مديح 27 ديسمبر

عانى الشعب الكمبودي كثيرًا أيضًا في السنوات الخمس السابقة، وكلّ تاريخهِ في الحقيقة قبل ذلك: طغاهٌ يستنزفونه بلا حدود. فبعد انقلابٍ على الملك سيهانوك في 1970، خيّم على هذا البلد نظامٌ أميركي. تلت الانقلاب، بالتعاون مع المقاومة الكمبودية، اكتساحاتٌ لِثوار الفيتكونج الفيتناميين لأراضٍ كمبودية، لمواجهة الأميركان الذين ظلّوا يقصفون بعشوائية قرى كمبوديا ومدنها.
لم يكتفِ تاريخ هذا الشعب المقهور بهذه التراجيديا، لتلحقه بعد ذلك أمّ التراجيديات، عقب تربّع "بول بوت" عليه.
"الأخ في الدم رقم واحد"، حسب تسميته، بول بوت الذي لم يواصل دراسة الهندسة في فرنسا، عاد إلى كمبوديا شديد الإعجاب بالتجربة الماوية. حلمه المجنون: شعبٌ يحيا في العام صفر: مجتمع فلاحي نقي، بلا طبقات، مطهَّرٌ من كل تأثيرٍ أجنبي.
الطريق إلى ذلك: إبادة الطبقات الاجتماعية: المثقفون، والبورجوازية الصغيرة، والأغنياء. ونقل مستوطني المدن إلى الأرياف للعمل في المزارع، وتقليص السكان وتطهيرهم الأيديولوجي.
حكمة بولبوتية: "شعب السابع عشر من إبريل/ نيسان الذي ورثناه لا فائدة من بقائه، ولا ندم على إبادته"!
أمّا الوسائل: إغلاق المدارس، وفصل الرجال عن النساء، وقتل من يأكل فاكهة من شجرة داره، إذ هي ملك للشعب! ومن غادر قريته ذات يوم للعمل في المدن، فهذه خيانة طبقية! ومن يلبس نظارة أو يتكلّم لغة أجنبية، فهو ينتمي إلى طبقة المثقفين الشيطانية! أمّا مَن ملامحُه وسيمة، فهو مدان بيولوجياً بالترهّل الإيديولوجي والنعيم الجنسي وخيانة الكادحين!
والخطة العملية العاجلة: نقل الشعب للزراعة في الريف، لمضاعفة إنتاج الأرز ثلاث مرات!
وكانت النتيجة: جراحٌ لن تندمل، مسّت كل أسرة، تحتاج كمبوديا إلى خيال بلا حدود لنسيانها. إذ أبيدَ أكثر من ربع الشعب الكمبودي (حوالي ثلاثة ملايين) خلال حكم الخمير الحمر، الذي دام لأربع سنوات، قبل وصول الفيتناميين لتحرير كمبوديا منهم، بعد عدوانها العسكري على بلدهم.
ولِسبرِ حجم الجراح، تكفي مثلًا زيارة متحف S21. كان، مثل غيره، مدرسة كولونيالية فرنسية واسعة جميلة، وتحوّل، بعد وصول بول بوت للحكم، إلى سجنٍ يقوده أحد أكبر جلادي القرن العشرين: دوش، الذي أدين بجرائم ضدّ الإنسانية في محاكمة دولية.
دخول المرءِ السجنَ يعني تعذيبَه الإجباري الشنيع، ثمّ موته الأكيد. يصله مع كلّ عائلته بمن فيهم الأطفال الصغار. حكمة بولبوتية أخرى: "لا تنسَ الجذر عند اقتلاع الشجرة!". وحكمة أخرى ثانيةً: "من الأفضل قتل البريء خطأً، على عدم قتل العدو!".
كلّ ما ابتكره الإنسان من وسائل تنكيل، وما اخترعه طوال تاريخ التعذيب الإنساني، مورس في هذا السجن بمنتهى الفظاعة. يكفي قراءة "القواعد العشر" على سبّورات صفوف المدرسة:
القاعدة السادسة: "يمنع منعًا باتًا الصراخ أثناء التعذيب بالصدمات الكهربائية".
القاعدة العاشرة: "عقوبة عدم الالتزام بأي قاعدة سابقة: عشر صدمات كهربائية".
"حقول القتل" تنتظر المرء بعد السجن أكيدًا، إن كان ما يزال على قيد الحياة. أحدها، على بعد 17 كلم من العاصمة، تحوّلَ إلى متحفٍ تذكاري يستقيم كلّ شعر الجسد عند زيارته.
سأكتفي بكلمتين: تواجهك عند دخوله شجرة، تشبه كثيراً الشجرة التي عرف بوذا قربها حالة "النيرفانا"، يُصدم بها رأس الطفل لِتهشيمه أمام مرأى أمّهِ، قبل رميه في أحد عشرات أخاديد القبور الجماعية في الحقول.
يُمنع إطلاقُ رصاصةٍ على المدان، فهو لا يستحقّ ثمن رصاصة! يكفي استخدام المطرقة أو المجرفة أو المنجل لضربه بالرأس، بعد قطع حنجرته بالخنجر كي لا يصرخ ويسمعه السكان المجاورون.
عمومًا لن يسمعه أحد، لأن ميكروفونات الأغاني الثورية المثبتة على شجرة تسمّى: الشجرة السحريّة، وهدير ماكينات الديزل المجاورة لها، تُدوّي ليل نهار لِطمس صراخ القتلى.
سنوات نظام بول بوت خليطٌ مركّز من الفظائع والتراجيديات. شناعة كلّ طغاتنا العرب ودواعشنا، شذرات من "بركاته". إذ في كلّ طاغية وحلم إرهابي، عِرقٌ ما من نظام بول بوت:
حلم داعش بالعودة إلى قرن الصحابة، في هذا القرن الواحد والعشرين، وهمجيتهم البربرية، ومسيرة الحوثيين القرآنية وتدميرها لليمن، نفحة من نفحاته.
وإبادة نظام الأسد لشعب سورية وأصناف تعذيبه وبراميله وكيماوياته تجلّيات معاصرة للطقوس البولبوتية الأصيلة.
ولذلك، فإن محاضرةً بالصوت والصورة، لأوديسيا نظام بول بوت، في كل مدرسة من مدارس العالم، لا سيما العربي، ضرورةٌ إنسانية دائمة، لأن ثمة حقًا عبرة أبدية في الأحزان الكمبودية!
يتلو المحاضرة نقاشٌ جماعي عن كيف يترعرع مثل هذا الوباء التدميري، وكيف يُقضى عليه. وعن الشرّ الكامن في الطبيعة الإنسانية، الذي طالما تحدّث عنه الفلاسفة، لا سيما نيتشه، وقبله شاعرُهم أبو العلاء الذي قال: "شرُّ أشجارٍ علمتُ بها/ شجراتٍ أنبتتْ ناسا/ كلّهم أخفتْ جوانحهُ/ مارداً في الصدر خنّاسا".
المساهمون
The website encountered an unexpected error. Please try again later.