العبادي ـ المالكي.. ما الحظوظ الحقيقيّة للتغيير؟

15 اغسطس 2014

حيدر العبادي ونوري المالكي

+ الخط -

شهدت الأيام القليلة الماضية تداعيات خطيرة في الشأن العراقي، كانت سمتها الأساسية تدور حول تشبّث رئيس وزراء فاشل، ومتصرّف بالسلطة إلى حد اللجاجة، وهو مَن صدّع رؤوس الناس بالحديث المتكرر عن الدستور والدستورية، والديمقراطية والتجربة التعددية. كل هذه أمور لا يؤمن بها نوري المالكي، انطلاقاً من نشأته، فهو رجل متحدّر من الريف، حيث القيم القرابية (صلة القربى) هي السائدة، والقرابية هي ضدٌّ نوعي للديمقراطية. وهو رجل تربّى في أحضان الطائفة، وإرث أسطورة المظلومية، فتركّبت في ذاته محصّلة عقدة الانسحاق وحب الانتقام، وهذه الأخرى ضدٌّ نوعي للديمقراطية بامتياز. وهو رجل قطع الجزء الأكبر من حياته، معتمداً على ما يجود به الحامي، وهو في حالته أحد اثنين، استخبارات إيران أو استخبارات الأسد، ما عظّم لديه عقدة الانسحاق ونمّاها. تداعت هذه المركّبات المعقّدة، المتجذّرة في شخصية نوري المالكي، لتجعل منه شخصاً لزج الشخصية، غير ذي قرارٍ، ميالٍ للانتقام، كأقرب بديلٍ متاح له في التعامل مع التحديات، بدليل موقفه من شركائه في العملية السياسية ذاتها التي ينتمي إليها، مثل طارق الهاشمي ورافع العيساوي وغيرهما. بل إن حبه الانتقام انجرّ على أبناء طائفته المخالفين له بالرأي، فناصب الصدريين العداء، ثم ألحقهم بجماعة عمار الحكيم، وصبَّ نيرانه على جماعة محمود الحسني الصرخي في كربلاء التي كان ينظر إليها كعبةً له، يتوجّه إليها خمس مرات في اليوم. 



هذا موقفه ممّن وضعهم في تقسيمه الطائفي في خانة أبناء الحسين، فكيف، إذن، كان موقفه ممّن وضعهم في خانة أبناء يزيد، وهم ثوار المحافظات الست المنتفضة؟ وصفهم كفقاعات نتنة، وطالبهم بأن ينتهوا قبل أن ينهوا، وأهمل مطالبهم الأربعة عشر المشروعة، ثم هجم عليهم تحت ذريعة (داعش)، مستخدماً كل ما منحته إياه راعيتاه، الولايات المتحدة وإيران، وأضاف له ما منحته إياه روسيا عبر صفقات الفساد الإداري المعروفة من طائرات خردة ومدفعية وصواريخ، ثم عزّز كل هذا بالبراميل المتفجرة التي تعلّمها من صنوه السوري، وسيده السابق، بشار الأسد، وغير ذلك كثير.
سلّط نيران هذه الأسلحة على المدنيين العُزّل في المحافظات الست، خاصاً الفلوجة بالجزء الأكبر من التدمير، متصوّراً أنه إذا ما كسر إرادة الفلوجة سيكسر إرادة هذه المحافظات الثائرة، وينهي ما سمّاها الفقاعة.

لكن، لسوء حظ المالكي، لم يكن حساب الحقل يشابه ويطابق حساب البيدر، فقد توسّعت الانتفاضة لتتحوّل إلى ثورة حقيقيةٍ، طوقت بغداد من جهاتها الأربع، وبعمق كبير يصل إلى 70 كيلومتراً من جنوبها، وهو أقل الامتدادات، أما من الشرق والغرب والشمال، فقد اتسعت لتغطي القطر كله في هذه المنطقة وحتى الحدود الدولية. وجاءت الكارثة الكبرى، التي ألحقت به الهزيمة حقاً، وهي انكسار جيشه الذي صرف عليه مليارات الدولارات في الموصل، وهزيمته بقياداته ذات الأسماء والرتب العالية التي جعلت كلاً منهم وكأنه المارشال جوكوف، أو غودريان، أو رومل، أو عمر برادلي، أو مونتغومري.

انهزم هذا الجيش أمام بضع مئات من المسلحين الذين مهما كان رأينا فيهم، إلا أننا نقف أمام حقيقة أنهم هزموا قواته، واستولوا على ترسانته العسكرية التي صرف عليها المليارات من قوت الشعب العراقي، والتي أعدتها الولايات المتحدة وتعهّدتها بالتدريب والرعاية، بحيث كانت هزيمتها صادمة لدوائر البنتاغون والإدارة الأميركيتين.
تساقطت المحافظات الست تباعاً بيد ثوار العشائر و(داعش)، بحيث بدت ماثلة قدرتهم على دخول بغداد في أي لحظة، وهو أمر لم يحصل، على رغم إحاطتهم ببغداد إحاطة السوار بالمعصم، لحسابات خاصة بهم لا نعرفها، لكننا واثقون من أن الخشية من قوات المالكي، والميليشيات التي أسسها لم تكن من بينها.

وأتت استحقاقات الانتخابات. وفي مواجهة رفض كامل لتوليه (رئاسة الوزراء مرة جديدة) من كل من الأكراد والسنّة، أصرّ هو على التولي مرة ثالثة، على الرغم من وجود قرار برلماني اتخذ بأغلبية ساحقة بعدم جواز تولي كل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء السلطة أكثر من دورتين انتخابيتين، وهو قرار التجأ المالكي إلى تابعه في المحكمة الاتحادية العليا لنقضه. ويسارع رؤساء الوزراء في الديمقراطيات للاستقالة عند فشلهم، فكيف، ونحن بإزاء مركب فشل كبير.
لكن المكابرة جزء مركزي تحكمه، في نفسية هذا الرجل، العقدتان اللتان سبقت الإشارة إليهما. لذلك، لجأ إلى كل الوسائل التي في جعبته للتشبّث بالسلطة، على الرغم من الإشارات القوية التي بدت في الأفق بأنه أضحى غير مرغوب فيه، ليس من أعدائه فحسب، بل من رعاته، الأميركيين والمرجعية الشيعية، وشركائه في العملية السياسية من الأحزاب السياسية الشيعية، والتحقت بالركب بشكل متأخر إيران. أما خصومه السياسيون من السنّة العرب والأكراد، فقد أعلنوا موقفهم أن لا تجديد لولاية ثالثة للمالكي. وبدل أن يرعوي، لجأ إلى الانقلاب العسكري، لكي يفرض نفسه رئيساً للوزراء مرة ثالثة، وهو ما أسقط أوراقه وأحلامه نهائياً.

كان الاستباق الذي قام به رئيس الجمهورية، الدكتور فؤاد معصوم، خطوة استباقية بامتياز، فهو قد سمّى التحالف الوطني (الشيعي) كتلة برلمانيةً أكبر، قاطعاً الطريق على المالكي، بادعاء أنه زعيم الكتلة الأكبر، ثم الاستباق الآخر الذي قام به التحالف الوطني، بتسمية حيدر العبادي من حزب الدعوة، ومن ائتلاف دولة القانون، الائتلاف صاحب المقاعد الأكثر ضمن التحالف الوطني، ما حدا برئيس الجمهورية إلى تكليفه بتشكيل الوزارة ضمن المدة الدستورية البالغة شهراً من تاريخ التبليغ. فهل سيكون العبادي على قدر المسؤولية، بعد السنوات الإحدى عشرة العجاف، المضمّخة بالدم والحقد التي عاشها العراق بعد الاحتلال الأميركي؟

حاز العبادي على ترحيب وتأييد دوليين منقطعي النظير، حتى من السعودية التي ناصبها التحالف الشيعي العداء، ومنهم الحزب الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء المكلف، حتى إيران التي دعمت المالكي، ورعته حتى اللحظة الأخيرة، أيّدت ما سمّتها "الإجراءات القانونية والدستورية التي تم بموجبها تكليف حيدر العبادي بتشكيل الحكومة، وتمنت له النجاح في تحقيق وحدة الشعب العراقي". لكن روسيا الاتحادية شذّت عن الاجماع الدولي المؤيد للعبادي، ربما وفاءً لمليارات المالكي، عندما تحفظت على بيان رئيس مجلس الأمن بتأييد تكليف حيدر العبادي بتشكيل الحكومة.

لكن الملاحظ أن كل هذا التأييد، خصوصاً من الولايات المتحدة الأميركية التي صرفت استثماراً دبلوماسياً هائلاً في العراق ليتحقق هذا التغيير، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، كان مشروطاً بتشكيل حكومة شراكة (وليس مشاركة، والفرق واضح) وطنية واسعة، يتمثّل فيها العراقيون جميعاً بشكل متساوٍ، ويشاركون في مسؤولية اتخاذ القرار، وفي إعادة بناء المؤسسة الأمنية على أسس متوازنة، وفي إبعاد الإقصاء الذي طال السنّة العرب، والكرد وغيرهم. هذه هي الوصفة التي قدمت لحيدر العبادي، ليشكل حكومته على أساسها، فهل سينفّذ هذه الوصفة؟ لا نريد استباق الأحداث، ولا نريد أن نفت من عضُد المكلّف. لكن، هنالك هواجس وخشية لا بد من إيرادها، متمنين أن لا تكون حقيقية، منها ما يلي:

1. افتتح حيدر العبادي يومه الأول بعد التكليف ببيان ولائه للمرجعية (الشيعية)، وأنه سيهتدي بتوجيهاتها. ليس هنالك مَن يجادل الرجل في ولائه لمرجعيته، فهي من أولى واجباته، لكن ولاءه ينتهي عندما يتحوّل من عضو المكتب السياسي لحزب الدعوة إلى رئيس مجلس الوزراء العراقي. هنا، ينبغي أن يكون ولاؤه للعراق، وليس لأي مرجع ديني، مع احترامنا التام للسادة العظام.

2. وكذلك هنا عليه أن ينضو من على كتفيه عباءة حزبه السياسي، لكي لا يقع في الآفة التي فتكت بالمالكي، وهي آفة المحسوبية الحزبية، ثم القرابية. لينظر كم من أقرباء المالكي وأبناء قبيلته يتولون مناصب مهمة في الأمن والدولة، وليبعد "عبادة"، مع كل احترامنا لهذه القبيلة العربية الكريمة الضاربة في رحم التاريخ، ليتركها كريمة بنفسها وبذاتها، ولا يلوثها بالسلطة ومغرياتها.

3. وبعد تمرد نوري المالكي وانقلابه العسكري الذي ظهر إلى العلن ومحاصرته مسكن رئيس الجمهورية، ينبغي أن لا يتاح لهذا الرجل أي منصب في السلطة، حتى ولا منصب "باش كاتب"، بل على العكس ينبغي سوقه إلى العدالة، ليحاسب على شنيع عمله وعلى إهداره المال العام، واستهدافه المواطنين في المحافظات الست.

4. ولأن مدرسة الحياة أفضل المدارس، ولأنه عايش من الظل التجربة المريرة بعد الاحتلال، وخصوصاً تجربة الأمين العام لحزبه، نوري المالكي، فنحن على قناعةٍ بأن العراق لا يمكن أن يُحكَم طائفياً، ولا من مكوّن واحد، وإن المكونين الآخرين ليسا مكوّنا أقلية، وإن المكون العربي السني، تحديداً، مرٌ لحمه، ولا يمكن الاستهانة به وإقصاؤه، بل سيسهم هذه المكون، وبحق، بازدهار الدولة، إذا ما تم تعديل العملية السياسية، لتقوم على أساس المواطَنة، وليس الولاء الفرعي، وإذا ما تمت تلبية مطالبها الأربعة عشر التي رفعتها طوال عام في ساحات اعتصاماتها المليونية.

5. كان العهد السابق عهد فساد إداري ومالي يزكم الأنوف. لذلك، على العبادي أن يولي مهمة ملاحقة السراق والمرتشين اهتماماً كبيراً، ونرى أن يوكل إلى القضاء النزيه المحايد مهمة التحقيق وسوق السراق للعدالة. القضاء هنا ليس قضاء مدحت المحمود بل القضاء النزيه. هنالك أسماء محترمة من بين أعضاء المحكمة الاتحادية العليا، كانت مهمشة في حقبة المالكي/ المحمود يمكنها أن تقوم بالمهمة خير قيام.

6. وأخيراً، يعلم الدكتور العبادي جيداً أن الانتخابات الأخيرة كانت غير نزيهة والأرقام التي حصل عليها ائتلافه تحيط بها الشكوك. ستسجل للعبادي نقطة مضيئة، لو دعا إلى انتخابات مبكرة، بعد استقرار الوضع الأمني، ليتم توازن التمثيل الشعبي، وسيكون
أمراً مهماً إعمال المادة الدستورية التي تمنع تشكيل الأحزاب على أسس دينية أو طائفية أو مثيرة للكراهية.

هذه إلزاماتٌ، نرجو أن تراود رئيس مجلس الوزراء المكلّف، وأن يعمل بها ليتم تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، وفق الوصفة الدولية التي ربطت تأييدها له بنجاحه في تشكيلها.
والله من وراء القصد.

08A6C6A7-5596-4EDC-ACA9-A8FCF4C66DBF
عبد الوهاب القصاب

خبير عسكري، وكاتب وباحث، ضابط سابق برتبة لواء في الجيش العراقي