العامل الخارجي في الساحة الفلسطينية

20 مارس 2019
+ الخط -
معروف في التجربة الفلسطينية أن الوضع الداخلي مفتوح على طيف واسع من التأثيرات الخارجية التي لها فعل حاسم داخل الساحة الفلسطينية، أكثر من أي ساحة سياسية أخرى. ولا تأتي هذه التأثيرات من اتجاه أو طرف واحد، بل من عدة اتجاهاتٍ تسعى إلى إنجاز أهدافٍ متناقضة، حتى ليبدو الوضع الفلسطيني، في بعض الأحيان، تجسيداً لصراعات الآخرين ولحروبهم فيها، على الرغم من ادعاء المتصارعين الإقليميين على الأقل، بمركزية القضية الفلسطينية. ليست التأثيرات العربية والإقليمية الوحيدة في الساحة الفلسطينية، فالتأثيرات الدولية ليست أقل مركزية على الوضع الداخلي الفلسطيني، خصوصاً بعد إبرام السلطة الفلسطينية اتفاقات مع إسرائيل وبرعاية من الدول الكبرى، خصوصاً الولايات المتحدة، وهو ما جعل السلطة ترتهن، في حياتها الاقتصادية، للتمويل الدولي عبر الدول المانحة. كل هذه عوامل معروفة ومفهومة، بحكم انكشاف الساحة الفلسطينية لهذه التأثيرات، بحيث يمكن القول إن 
الوضع الداخلي الفلسطيني ملكية عامة للتأثيرات الإقليمية والدولية.
تاريخياً، هكذا كان الوضع الفلسطيني مكشوفاً تماماً، على الرغم من تراجع ظهور هذه التأثيرات في بعض المراحل، أو تحولها إلى تأثيراتٍ خفية، أو فجاجتها في مراحل أخرى. والمعروف أيضاً أن أنظمة عربية أقامت منظمات فلسطينية امتداداً سياسياً معلناً وفجاً لها في الساحة الفلسطينية، حتى يكون تأثيرها مباشراً، وأن تطل مباشرة على المطبخ السياسي الفلسطيني، وتشارك فيه.
أُنشئت منظمة التحرير الفلسطينية بقرار عربي في العام 1964، وعندما تمت فلسطنتها، عبر دخول الفصائل المسلحة لها في العام 1968، تم تعريب الفصائل من خلال دخول منظمة التحرير إلى الإطار الرسمي العربي، وتحوّلها إلى عضو كامل العضوية في النظام العربي، ومؤسساته الرسمية، من مؤسسة القمة، حتى المؤسسات المتخصصة في جامعة الدول العربية، إلا أن هذا الدخول لم يعنِ تراجع التأثيرات الإقليمية والدولية في منظمة التحرير، بل على العكس كانت التأثيرات على حركة وطنية مسلحة لاجئة في أرض الآخرين مسألة محسومة، حتى لو سمعنا كلاماً فلسطينياً كثيراً عن المعارك التي تم خوضها من أجل حماية "القرار الوطني الفلسطيني المستقل" من الارتهان للآخرين. بالطبع، لا يمكن نكران أن الفلسطينيين خاضوا صراعات دامية من أجل هذا "القرار المستقل"، بالأصح خاضوا معارك من أجل عدم الارتهان، أو الإلحاق النهائي، بطرف عربي دون آخر، وتحويل القضية الفلسطينية إلى ورقة بيد هذا الطرف أو ذاك. وكان هناك طلب عال للإمساك بالورقة الفلسطينية من أكثر من طرف، وفي أوقات منصرمة كثيرة. ولكن عند خوض هذه المعارك، كان الفلسطينيون يستعينون بأطرافٍ عربية أخرى، من أجل الموازنة المعادلة مع الأطراف التي تحاول السيطرة على الورقة الفلسطينية، وهو ما يمكن اعتباره إقراراً بالتأثير الخارجي الحاسم في الوضع الداخلي الفلسطيني. وكان الكلام الفلسطيني عن اللعب على التناقضات العربية، أو استثمارها من أجل التملص من اصطفافات فلسطينية مع طرف عربي أو آخر، ينجح بعض الأحيان،
 ولكن هذا التناقض، في أحيان أخرى، يطبق حتى على الفلسطينيين أنفسهم الذين ادعوا المهارة في اللعب على هذه التناقضات العربية ـ العربية. أبرز مثال على ذلك، كان الاحتلال العراقي للكويت. حتى أن التحولات السياسية التي شهدتها منظمة التحرير، في عقد السبعينات، من شعار "تحرير كامل التراب الفلسطيني" وصولاً إلى "الدولة الفلسطينية المستقلة" في الضفة
الغربية وقطاع غزة، كانت تحولاتٍ بفعل متطلبات التكيّف مع المتطلبات الإقليمية والدولية التي تولدت عن كل من هزيمة العام 1967 وحرب العام 1973. وقد جاء الاعتراف العربي بأن منظمة التحرير "الممثل الشرعي والوحيد" بعد إقرار منظمة التحرير بهذه التحولات التي جعلت أي حلٍ يقوم على أساس تلك المعطيات التي باتت تشكل أساس الحل، وقاعدة انطلاق هذا الحل قرار مجلس الأمن الدولي 242 وفق المنطق الدولي والإقليمي. ومن جهة أخرى، كان ذلك إعادة تكيّف المنظمة مع شروط التوافق الدولي للحل في المنطقة، والذي بات محسوماً أنه يقوم على نتائج حرب العام 1967 حلا نهائيا للقضية الفلسطينية.
حالياً، ليس الوضع الفلسطيني في أحسن حالاته. الاستقطاب الثنائي وحال الانقسام جعلا القيادة الفلسطينية أضعف، ما قلص من إمكانية التملص من التأثيرات الخارجية عما كان علية في السابق، فقد كان الرئيس الراحل ياسر عرفات يجيد فن اللعب على التناقضات العربية - العربية للتملص من التأثيرات الخارجية، على محدودية القدرة على ذلك. ولكن يبدو اليوم أن إمكانية تكرار هذه اللعبة معدومة الفرصة في النجاح، على الرغم من أن الوضع اليوم في المنطقة يعطي هذه الإمكانية، بسبب انشغالات دول المنطقة بثورات الربيع العربي والثورات المضادة.
وتبدو هذه الانشغالات بعيدة عن القضية الفلسطينية، ومهمومة بالقضايا الوطنية المحلية. على 
الرغم من هذا الهامش، وعلى الرغم من مسار المصالحة الجارية بين قطبي الساحة الفلسطينية الذي يفشل، المرة بعد الأخرى، فإن ذلك لم يردم الخندق العميق بين الطرفين، وتبدو إمكانية التحرك المستقل لكلا الطرفين الرئيسيين في الساحة الفلسطينية حولها شكوكٌ كثيرة.
في هذا الإطار، تحتاج المصالحة الفلسطينية إلى توافقات أو موافقات من خارج الساحة الفلسطينية حتى تنجح. وإذا كان الوضع الضبابي اليوم يعطي المساحة للتحرك الفلسطيني ـ الفلسطيني باتجاه المصالحة، فإن الاعتقاد بأن الفلسطينيين يملكون ترتيب ساحتهم الداخلية كما يرغبون سيأتي الواقع ليكذبه. الفلسطينيون وحدهم غير قادرين على حل مشكلاتهم، وعلى الآخرين المساهمة في حل هذه المشكلات. باختصار، ليس هناك وضع داخلي فلسطيني، إنه ملعب اللاعبين الخارجيين أكثر منه ملعب القوى الفلسطينية الداخلية. وفي ظل الانقسام الحاصل، لا يظهر طرفا الصراع ضعيفين فقط، بل تبدو الساحة الفلسطينية كلها ضعيفةً، وعرضة لمزيد من التأثر بالتأثيرات الخارجية أيضاً. وبتضامن العاملين الداخلي والخارجي، تدخل هذه الساحة مرحلة التفكك.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.