العامل الإسرائيلي ونظرية المؤامرة
حتى لا يبقى الكلام في الإطار العمومي، نستطيع أن نأخذ أحداث الربيع العربي، بوصفها نموذجاً لتوظيف "نظرية المؤامرة" التي تحمل إسرائيل وأميركا المسؤولية عن كل الجرائم الوطنية. كل الدول التي شهدت ثورات وانتفاضات ضد حكامها في السنوات الخمس الأخيرة في المنطقة، من تونس حتى اليمن، اتهم حكامها وأبواقهم أيادي خارجية في التآمر على هذه البلدان، لإسقاط أنظمتها النموذجية، لتخريب الاستقرار الذي تعيشه. لم يعترف أي نظام بمسؤوليته عما جرى في بلده، فالحكم المديد منح الحكام العرب إحساساً بالألوهية والأبدية، فأقصر حكم لحاكم في البلدان التي شهدت الربيع العربي، كان النظام التونسي، الذي حكمه زين العابدين بن علي، منذ عام 1986 حتى إطاحته في مطلع عام 2011. وقد جعلت الثورة التونسية التي كانت فاتحة الربيع العربي الأنظمة تكرر الخطاب نفسه عن "نظرية المؤامرة" التي تستهدف البلد واستقراره التي كان نموذجها الكاريكاتوري خطابات معمر القذافي في اتهام شعبه اتهامات فظيعة. حتى النظام المصري الذي كان يحاول إرضاء إسرائيل، بكل الوسائل، والمرتبط بالولايات المتحدة ارتباطاً وثيقاً، لأن الرئيس، حسني مبارك، كان يعتقد أن وصول نجله، جمال مبارك، إلى الحكم عبر ا
لتوريث يمر عبر إسرائيل، ومن خلال اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، إضافة إلى إرضاء الولايات المتحدة نفسها. على الرغم من ذلك، اتهمت أبواق النظام المصري إسرائيل والولايات المتحدة بإطلاق شرارة الربيع المصري، بوصفه مؤامرة على استقرار مصر، وتنفيذاً للمصالح والأهداف الإسرائيلية التي لم يسمح نظام مبارك بتمريرها.
تجلت "نظرية المؤامرة" في نموذجها الفاقع في خطاب النظام السوري وأبواقه، وبحكم التأخر النسبي في وصول الربيع العربي إلى سورية، كان النظام قد بنى استراتيجيته في مواجهة الاحتجاجات على أساسين، أمني وإعلامي. يقوم الأول على البطش بكل قوة بالاحتجاجات لمنع توسعها. لذلك، منذ المظاهرة الأولى في درعا، لم تشهد سورية استخدام آليات فض الاحتجاجات التقليدية، الهراوات والرش بالماء والغاز المسيل للدموع... إلخ، بل شهدت الاستخدام المباشر للرصاص الحي على المتظاهرين، ولم يجعل توسع الاحتجاجات النظام أكثر مرونة في التعامل معها، من خلال تقديم تنازلات سياسية أو مناطقية، بل على العكس، دفع توسع الاحتجاجات النظام إلى إنزال الدبابات إلى الشوارع منذ الأيام الأولى، وقمع أهالي درعا بوحشية، لإرهاب المناطق الأخرى، ومنعها من دخول موجة الاحتجاجات. لكن دخول مزيد من المناطق السورية في الثورة على النظام لم يجعله يفكر في تقديم تنازلات للمحتجين، بل توغل أكثر في العنف ضد شعبه، وصولاً إلى استخدام البراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية. كل هذا العنف الوحشي تم تبريره من النظام بالمؤامرة عليه، بوصفه نظاماً "ممانعاً" في المنطقة، وبالتالي، يتعرض إلى مؤامرة إسرائيلية، أميركية، غربية، عربية، لم يتورع أبواق النظام من تسميتها "المؤامرة الكونية على سورية"، فمنطق أبواق النظام يقول، إن المؤامرة على سورية تتجاوز الكرة الأرضية إلى الكون كله.
استقر إعلام النظام السوري على الادعاء بأنه يتعرض إلى "حرب" و"مؤامرة كونية" تستهدف النظام الممانع الذي يوحد نفسه مع البلد، والذي يوحده إعلام النظام مع رأس النظام، الذي يساوي البلد كله بمطلق بالنظام. الرئيس هو البلد والبلد هو الرئيس. وبهذا المنطق، لم يتورع أبواق النظام من أيام الأسد الأب من نسبة سورية إلى الأسد، عندما أطلقوا عليها "سورية الأسد". ويتعامل هذا المنطق الاستبدادي مع البلد، بوصفه مزرعة، ملكيتها شخصية للرئيس، والمواطنين بوصفهم أرانب في مزرعته، يفعل بهم ما يشاء. كل هذا بذريعة أنه "نظام ممانع" في مواجهة إسرائيل التي لم يطلق عليها أي طلقة منذ أكثر من أربعين عاماً.
يعرف النظام السوري، ويعرف كل محلل سياسي مبتدئ أن "نظرية المؤامرة" لا يمكن نقاشها، فلا يمكن نقاش موضوع بلا معطيات، المؤامرة تجري في الخفاء، فهي دائما سرية غير معروفة المعالم. لذلك، لا تصلح للنقاش العام، لكنها تصلح لتبرير سياسات وحشية، كما يعتقد أبواق النظام السوري. لكن، في سياق نقاش المعطيات بعيداً عن "نظرية المؤامرة" وبتوسل أهدافها. إذا كان هدف المؤامرة الكونية تدمير سورية، فإننا لو كلفنا دول العدو، وفي مقدمتها إسرائيل، بتدمير سورية، لما نفذت المهمة بالاتساع الذي قام به النظام السوري في تدمير بلده. بالتحليل السياسي، يصبح النظام الذي يتصدى للمؤامرة من أجل حماية بلده، هو العنوان الحقيقي للمؤامرة، فهو ينفذ كل ما يرغب فيه عدوه المفترض، ويصبح، بالتالي، هو نفسه عنوان المؤامرة على البلد التي حولها إلى ركام.