العالم خارج شاشاتهم

01 ابريل 2014

انشغال الإعلام العربي بالانتخايات البلدية التركية نموذج صالح للدراسة

+ الخط -


يمكن القول: إن المسافة الزمنية التي تفصلنا عن لحظة انطلاق الربيع العربي توفر، اليوم، إمكانية ملاحظة مآلات ظواهر كثيرة، رافقت هذا الفصل الفريد من التاريخ العربي المعاصر وواكبته. ولعل من أكثرها صخباً الظاهرة الإعلامية وحتميتها، فخلال أربع سنوات، كان الإعلام، بكل أشكاله، يرد قرين أَي حديث عن الثورة والشعب والديمقراطية والتغيرات الاجتماعية والتاريخية. والمسافة التي تفصلنا عن اللحظة التي قيل فيها، إن "فيسبوك" هو ما أنجح ثورة يناير في مصر تكفي لفحص جملة افتراضات وآراء وأهواء وأوهام، اقترنت بالحديث عن الإعلام، وشاشاته التلفزية أو الحاسوبية، وعلاقتها بالربيع العربي وتغيراته.
ولعل الساحة التركية وانشغال الإعلام العربي بها، اليوم، يصلح للدلالة على طبيعة فهم الحالة الإعلامية، وعلاقتها بما جرى ويجري عربياً. هنالك من صدّق واقتنع، وروّج ما يفيد بأن ثورة الشعوب العربية محض لعبة إعلامية، وانطلقت هذه التصورات من اعتقاد دفين، بعدم قدرة الشعوب على التغير التاريخي والسياسي، بقواها الذاتية ودفعها العضوي الأصيل. لذلك، تم إلصاق كل فعل أتته الجماهير في ميادينها بالإعلام وقدراته وتقنياته، ولعبته الكبرى التي أَصبحت واقعاً، ودفع تلك التصورات، أيضاً، خوف من الجماهير، وإنكار نفسي لقدرتها على الفعل. لذلك، كان الإعلام ملاذاً سحرياً يصلح لتحميله وزر كل ما يجري، وفي مرحلة لاحقة، التعويل عليه، لإعادة الزمن إلى ما قبل الربيع العربي.
وبعد اتهام الإعلام بكل ما جرى؛ سعت النظم والتحالفات المتضررة من الربيع العربي الى استخدامه، لدفع ثورتها المضادة، فانطلقت عشرات الفضائيات، وانفجرت اللجان الإلكترونية، ومجموعات وسائل التواصل الاجتماعي. وظهرت إلى العلن الإلكتروني مئات المواقع الإخبارية التي يعوّل عليها في إنجاح الثورة المضادة، وبلغ الإفراط في التعويل على جواد الإعلام ذروته في الحدث التركي، بدءاً بأحداث ميدان تقسيم في إسطنبول الصيف الماضي.
فكيف يمكن فهم إفراد فضائيات عربية ساعات طوال من بثها الحديث عن اعتصام ميدان تقسيم، ومن ثم مواكبة الحملات التي استهدفت حزب العدالة والتنمية، وزعيمه أَردوغان، وصولاً إلى الانشغال بالانتخابات البلدية التركية كأنها نهاية العالم، في ضوء بديهيات التغطية الإعلامية التي تدرك من هو جمهورها، وتعرف جيداً أن جمهوراً تركياً لا يمكنه، بأي حال، أن يتسمّر لمتابعة قناة عربية، ناهيك عن التعويل على صدق وحقيقة المضمون الذي تقدمه؟! ببساطة، لا يمكن فهم الأمر، إلا كامتداد لوهم التعويل على الإعلام، ومنحه قدرات سحرية، أوصلت المؤمنين بها إلى حالة طريفة مضحكة، وصلت، في حالاتها المتطرفة، إلى حد إعلان انقلابات تلفزيونية، وتدشين تغيرات إقليمية حاسمة، لم تتجاوز الشاشات ومستطيلاتها.
تكشف مواكبة الحالة التركية في الإعلام العربي، وتحديداً المستميت في محاولة إنجاح الثورات المضادة، إلى أَي مدى باتت السيولة الإعلامية تدلل، مرة أخرى وبوضوح، على أَن كثيرين أُعجبوا بصورة الجماهير، أَكثر مما آمنوا بالجماهير نفسها، وأَن هؤلاء يخافون بشدة من مواجهة حقيقة أَن من ظهروا في شاشات التلفزة وصفحات الإعلام الاجتماعي بشر حقيقيون، قادرون على التغيير، واكبتهم تغطية إعلامية أم لا. وليس التلاعب في تضخيم مشاهد المناصرين الطريقة الوحيدة للفوز في معركة الأغلبية وتأييد الشعب، وفي مصر، نموذج للمذيع الذي يواجه المشاهدين، مستحوذاً على الشاشة كلها، ويثرثر ساعات طوال، كأنه في جلسة تنويم مغناطيسي، لا يخاطب إلا المتضررين، أمثاله، من حالة الربيع العربي ككل، ولا يملك تغيير الوقائع المتراكمة على الأرض.
مواكبة الانشغال الإعلامي العربي الحالة التركية تظهر إِلى أي حد باتت وسائل إعلام كثيرة تعيش في عالمٍ خاص بها، عالم موازٍ مكتملٍ، لا يتقاطع بتاتاً مع العالم الحقيقي الفعلي، القائم خارج الشاشات. عالم يشبه تماماً ذاك الذي يعيش فيه أي مستبد أو دكتاتور، فينكر الواقع، ولا يراه، ويظل على تلك الحال، حتى يبتلع الواقع حدود عالمه المتوهم. ولعل الأَرقام التي تخرج بها صناديق الاقتراع التركية، في هذه الأيام، تصلح، وحدها، لتذكير كثيرين بأن هنالك شعوباً ومجتمعات وعالماً واقعياً موجوداً خارج شاشاتهم، وهو، على الأغلب، لم يسمع بهم أصلاً.

 

2BB55568-EFEE-416B-934D-5C762181FE7F
عبّاد يحيى

كاتب وباحث وصحفي من فلسطين