09 يونيو 2023
العالم إلى تغيّر بعد كورونا
من كان يتصوّر أن تحدث مثل هذه الأحداث؟ على وقع ضجيج فيروس كورونا تُحْبَسُ شعوب بلدان ديمقراطية بكاملها في البيوت، فلا يخرجون إلا بإذن، وللضرورة فقط، مثل فرنسا وإيطاليا، وستتبعها دول أخرى في أوروبا وخارج أوروبا، وأن ينظر مواطنوها بعين الرضى أو بدون اكتراث أو بقليل من التأفف، أو حتى التسليم المطلق، إلى هذه الإجراءات القاسية، وينظرون بحياد أو إيجابية إلى نزول الجيش والشرطة إلى الشوارع، لمراقبة التزام الناس بالإجراءات التي فرضتها حكوماتهم، مقلدين نموذج الصين "الناجح" في احتواء وباء كورونا.
على ضجيج الخوف والهلع المتصاعد من فيروس كورونا، تقفل دول كثيرة حدودها، وتتوقف النشاطات والاجتماعات والمظاهرات والحفلات الفنية، والمباريات الرياضية، وحتى الزواج أو الوفاة تتم بحضور محدود، الناس يبتعدون عن بعضهم، يلوذون ببيوتهم. دور العبادة لجميع الأديان تغلق، وهذا يحدث لأول مرة في التاريخ، فلم يحتمِ الناس بدور العبادة، بل هربوا منها، يحتمون ببيوتهم في عزلة عن الآخرين، مترقبين أخبار العلم لإنتاج لقاح ودواء.
يضع فيروس كورونا الاقتصاد العالمي على حافّة الانهيار، في حال استطالت فترة الصراع معه، فالأسواق تغلق، عدا الضروري منها، ويتقلص الطلب الداخلي والخارجي، فتتراجع التجارة الدولية ومثلها التجارة الداخلية، فتتوقف قطاعات اقتصادية كاملة، بينما تتراجع قطاعات أخرى، وتغلق أسواق المال على تراجع، وتهبط أسعار أسهم الشركات، وتتوقف الاستثمارات، ويصبح النمو الاقتصادي سالبًا، وكل هذا سيرفع معدّلات البطالة، وستتراجع قدرات الدول المتقدمة على دعم اقتصاداتها وشركاتها إذا طالت فترة الصراع ضد الفيروس، وستعلن شركاتٌ إفلاسها في حال طالت فترة تطبيق هذه الإجراءات، وستكون هذه مناسبة لابتلاع الكبيرة
الصغيرة، وزيادة التركز والتمركز والاحتكار، وتعزيز قوة رأس المال في مقابل قوة العمل، بل ستفلس الدول المعتمدة على تصدير النفط، ومنها روسيا، بسبب انهيار الأسعار التي تدنت الآن إلى نحو 20 – 25 دولاراً للبرميل، وقد يكون كل هذا نذيراً بتحولات في الاقتصاد العالمي، وربما فرصة لصعود الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وربما غيرها أيضاً.
بدون كورونا لا يمكن فرض حالة طوارئ في بلدان ديمقراطية، والتهديد بأن هذه الإجراءات قد تستمر شهوراً، وربما حتى نهاية السنة الحالية (2020) أو بعدها، وقد بدأ الآن سباقٌ محمومٌ لإنتاج لقاح ودواء لكورونا، وتتسابق عدة دول في إعلان أنها بدأت تجاربها للدواء أو اللقاح، مثل فرنسا وانكلترا وألمانيا والصين والولايات المتحدة، إذ سيكون سوق الدواء واللقاح مصدراً لجني عشرات مليارات الدولارات من الأرباح.
على الرغم من وجود تساؤلات كثيرة حول الفيروس ليس لها جواب واضح، ما يغذّي نظريات المؤامرة والحرب البيولوجية، وعلى الرغم من التشكيك والاتهام بالمبالغات والتضخيم المقصود لمخاطر كورونا، والتوسيع المقصود في الإجراءات المتخذة من السلطات لغايات مضمرة، فإننا لا نشكك في أن خطر كورونا حقيقي وداهم، ولا تمكن مواجهته بدون إجراءات صارمة، ويأتي خطره الحقيقي من أنه ليس مجرّد إنفلونزا عادية، بل هو إنفلونزا قاتلة لنسبة قد تزيد عن 4% من المصابين، والأخطر هو سرعة انتشاره غير المسبوقة، والذي يتضاعف كل بضعة أيام، ما لم يتم احتواؤه، بما يهدّد بإصابة غالبية سكان الدول التي وصل إليها. ومع الانتشار الواسع للوباء لن يتمكّن القطاع الصحي من استيعاب الحالات المتزايدة فجأة، ما يؤدّي إلى وفاة عدد أكبر، ويقتل كبار السن والمرضى بالدرجة الأولى، ولكنه يقتل الأصغر سناً أيضاً ممن لديهم
مرض عضال أو مناعة ضعيفة.
فاق تهديد كورونا، بتأثيره، تأثير الحرب العالمية الثانية على الحياة العامة في العمق والشمول، ولكن الفترة ما زالت قصيرة. إنها حرب كونية معلنة ضد كائن في منتهى الصغر، تتحول ضمناً إلى حروب بين متنافسين أقوياء، فمن يستطيع تقدير التحولات التي ستحدثها هذه الإجراءات الشاملة على مختلف مناحي حياة الأفراد، وأنماط حياتهم وعاداتهم واعتقادهم الديني وقيمهم، في حال طالت فترة الصراع مع الفيروس، وبدء التعود على العيش باحتياجاتٍ أقل والقبول بشروط أدنى أو أقل رفاهية، مثل إعداد الطعام في البيوت، وإعادة اكتشاف قيمة الحياة الأسرية، وكذلك تأثيرها على الشركات وتنظيم العمل عن بُعد الذي سيأخذ أبعاداً أكبر، بعد أن تكتشف الشركات، عبر الإجراءات الاضطرارية الحالية، مزايا العمل عن بُعد، لم تكن معروفة لها، وتكتشف إمكانية تخفيض أعداد عمالتها وأجورها وتكاليفها ومزاياها، وكذلك سيؤدي إلى استنباط أنماط من العمل عن بُعد في المؤسسات الحكومية، إضافة إلى تقليص بعض خدماتها وربما أدوارها، بما ينتج تأثيراً على الأنظمة السياسية والاقتصادية بمجملها.
تساؤلات وظواهر لافتة
ومع إدراك حقيقة خطر كورونا الداهم، تبرز تساؤلات قد تبدو مبكّرة:
ــ ألا تؤثر هذه الإجراءات، في حال استمرت شهوراً عدة أو أكثر، في الحياة الخاصة والعامة، فتغيرها على نحو سلبي، وتؤسس لتفريق الناس وإبعادهم عن بعضهم، وأن يصبح كل فرد مرهوناً بما يصدر عن السلطات من تعليمات، بما يشبه النمط الصيني في بعض جوانبه؟
ــ ألا تؤسس المناهج صينية المنشأ لمواجهة أزمة كورونا لنهج جديد في سيطرة الحكومات على شعوبها عبر فزّاعة ما مثل كورونا، وتنمية غريزة القطيع لدى الناس، وفق النموذج الصيني الذي يتلخّص بأن مجرّد قرار حكومي قادر على إغلاق مرافق المدن والبلدان ويغير مسارات الحياة من دون قدرة على الاحتجاج؟ ألم تستخدم من قبل فزاعة الإرهاب بعد هجمات 11 سبتمبر، في عام 2001، لتنفيذ إجراءاتٍ وسياساتٍ كان من الصعب تمريرها في بلدان ديمقراطية بدون زرع الخوف من عدو ما؟
ــ أليس ثمّة خطر بتأسيسٍ لمزيدٍ من ترويض الشعوب، إذ يطل موديل صيني جديد من "الأخ الأكبر" من رواية جورج أورويل "1984" التي كتبها في عام 1947، ليفرض سيطرته ومراقبته على الناس بتعسّف، من دون قدرة على الاعتراض؟
هذه المخاطر متوقعة، لأن كورونا قد يكون نقطة الماء التي جعلت الكأس تفيض، فقد جاءت إثر بروز عدة ظواهر لافتة سبقتها:
أولاها، كما تفيد دراسات ومراكز أبحاث عديدة، بروز مؤشرات على أزمة اقتصادية طاحنة متوقعة في سنة 2020 أكبر من أزمة 2008، وهي نوعٌ من الأزمات الدورية تحدث كل عقد تقريباً في البلدان الرأسمالية المتقدّمة، وتختلف في شدّتها وشمولها، وقد جعلتها العولمة تتخذ طابعاً عالمياً. ومع الأزمات، يتوجه الناس ضد النظام الرأسمالي القائم، وتصبح الحركات الاجتماعية وحركات اليسار أقوى، وثمّة رأي يقول إن تغطية الأزمة الاقتصادية بكورونا ستمنح الحكومات حجةً تقنع شعوبها بها بأن المسؤول عن أزماتهم ليس النظام الرأسمالي الليبرالي القائم على تقديس الربح، وإنما كورونا التي تأتي منقذاً للطبقات المالية المسيطرة، والتي تركز في يدها مزيدًا من الثروة، وخصوصًا بدءًا من ثمانينيات القرن العشرين، وأدت إلى مزيد من الاختلال في توزيع الثروة وتركزها في أيدٍ أقل، حيث يملك اليوم كمشة من كبار أثرياء العالم ثرواتٍ تعادل ما يملكه نصف سكان الأرض الأقل دخلاً، أي ما يملكه قرابة أربعة مليارات إنسان، وهو تعبير فاقع عن خلل كبير في توزيع الدخل الوطني، على حساب القوى
المنتجة والمبدعة في المجتمع، لصالح مالكي رؤوس الأموال الذين لا ينتجون هم أنفسهم أي قيم مضافة.
وثانيتها بروز قابلية العولمة للارتداد، بعد أن بدأت موجة توسيع العولمة في ثمانينيات القرن الماضي بقيادة أميركية، وأخذت بعدًا عالميًا أوسع بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومعسكره الاشتراكي، وقضم جزء غير قليل من شبكة المزايا الاجتماعية، وتعميم سياسات ليبرالية تمنح كل المزايا لرأس المال على حساب قوة العمل. وبينما كانت الصين تعادي العولمة بأشكالها كافة، نرى الاتجاهات تنعكس اليوم، فترامب يعود إلى إجراءات حمائية وسياسات اقتصادية تتعارض مع العولمة، بينما نرى الحماس الصيني للمضي في العولمة وتوسيعها، ويعد مشروع الحزام والطريق الصيني عولميًا أمبرياليًا بامتياز، لم يسبقها إليه أحد، فاليوم تقلب الولايات المتحدة اتجاه بعض سياساتها ضد العولمة، بعد أن أصبحت العولمة تنتج من الآثار السلبية على القوى التي أطلقتها لصالح قوى بازغة جديدة (الصين والهند والبرازيل وإندونيسيا وغيرها)، وقد تجذّرت العولمة في واقع اليوم إلى درجةٍ تجعل ارتدادها غير قابل للتحقق.
وثالثها صعود اليمين في أوروبا، والذي يؤيد إجراءات ذات طابع شمولي واستبدادي ويعادي الديمقراطية وحقوق الإنسان، تحت شعار المصالح الوطنية العليا.
ورابعها، صعود الشعبوية اليمينية المبتذلة، والتي يمثلها اليوم كل من الرئيس ترامب في الولايات المتحدة ورئيس الوزراء بوريس جونسون في بريطانيا، والتي تعادي حقوق العاملين، وتعادي أي طابع تضامني وإنساني، وتتسم بنزعةٍ ذئبيةٍ تجاه شعوبها وشعوب العالم، وتجلت هذه الشعبوية المبتذلة في تصريح جونسون أن على مواطنيه أن يستعدّوا لوداع أحبتهم، مصرًا
حتى الآن على عدم اتخاذ أي إجراء لمواجهة تفشي وباء كورونا، وربما يأمل هو، وما يمثله من اتجاه، أن تخلّصه كورونا من كبار السن والمرضى مما يخفض نفقات التقاعد والتأمين الصحي على شركات التأمين، وبروز قبول إجراءات منح الأولوية في العلاج لمن هم أصغر سنًا، وترداد عبارات مثل "دعونا نتخلص من كبار السن، فقد عاشوا حياتهم، وموتهم يعني بيوتاً فارغة أكثر للشباب".
وخامسها، عجز اليسار وتشتته وضعف الحركات الاجتماعية التي يمكن أن تشكل بديلًا لصعود اليمين، ولهذه التوجهات الذئبية الجديدة.
تنذر هذه الظواهر عولمة وصعود اليمين والشعبوية المبتذلة وعجز اليسار، ويضاف إليها كورونا اليوم، بحدوث تغييرات في طبيعة النظم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي ستبرز تباعًا، وستجعل العالم بعد كورونا ليس كما قبلها.
الصين وتغير العالم
سيبقى صعود الصين السمة الأبرز في التغيرات العالمية خلال العقود القليلة السابقة، وسيبقى كذلك عقوداً مقبلة. وعلى الرغم من أن انتشار فيروس كورونا في الصين بداية قد أساء لسمعتها، وخسرت صادراتها وأوجد شكوكاً في مشروعاتها المستقبلية وجدوى التعامل معها، ولكن نجاحها في احتواء الفيروس انعكس تحسناً في سمعتها، وأصبح نهجها الشمولي بالتصدي للفيروس نموذجاً تحتذيه الدول الديمقراطية. وقد يشكل ذلك بداية لأن تحذو هذه البلدان حذو الصين في مواجهة مشكلاتها الأخرى، بما سيعزز من قضم الحقوق الاجتماعية وفرض القيود على الحريات العامة في التعبير والتنظيم والتجمع، وسيتعزّز هذا بصعود الصين الاقتصادي، بحيث تصبح هي الاقتصاد الأول عالمياً، متخطية الولايات المتحدة خلال عقد. وتضع الصين سنة 2035 حداً أقصى لتحقيق ذلك، وسينعكس هذا نمواً في دورها السياسي العالمي، وسيعزّز صعود الصين السياسات المناهضة للحريات العامة، بالتضافر مع صعود أحزاب اليمين والقيادات الشعبوية المبتذلة، وخصوصاً أن الدول المتقدمة في أوروبا وأميركا واليابان
تواجه منافسة متصاعدة لمنتجاتها وأسواقها من الدول البازغة، وخصوصاً الصين، لا سيما وأن شبكات التضامن الاجتماعي وسياسات الرفاه الاجتماعي التي ما زالت قوية نسبياً، مقارنة بما هو مطبق في الاقتصادات البازغة وأجورها المنخفضة، والحقوق المتدنية وشروط سوق العمل الضعيفة، ما يرفع تكاليف منتجات الدول الديمقراطية المتقدّمة ويضعف قدرتها التنافسية، وستجد الدول المتقدمة أن سبيلها للمنافسة هو تقليد سياسات الدول البازغة، وخصوصاً الصين، وليس العكس، أي خفض للأجور، وتقليص مزايا شبكة الضمان الاجتماعي، وفرض قيود على حريات التعبير والتنظيم، مثل حريات الإضراب والتظاهر والتضييق على النقابات والأحزاب.
ولكل ما سبق، يتوقع أن يكون العالم بعد كورونا ليس كما قبلها، وتتوقف درجة التغيير على طول مدة تطبيق هذه الإجراءات وترتبط بها طرداً. على الرغم من أن احتمال هذه التغيرات وهذه المخاطر ما زال ضعيفاً، إذ لم تمض فترة طويلة عليها، والتي ستستمر إلى حين إنتاج عقار ولقاح يسهمان في احتواء الوباء، وتطويعه وتحويله إلى مجرد فيروس عادي، محدود القدرة على الفتك بالبشر. وعلى الرغم من أن كل هذا لن يتم بين ليلة وضحاها، إلا أنه يحمل خطر الحدوث تدريجياً، في حال طالت فترة الصراع مع الفيروس قبل التمكّن من احتوائه، ولا يقلل من خطر الحدوث سوى وعي الناس بمصالحهم وعدم قبولهم مقايضة الصحة أو فرص العمل بالحرية وفق معادلة الابتزاز "إما أو"، وعودتهم إلى التضامن الجماعي في وجه سلطة رأس المال، بعد أن تتم السيطرة على الوباء.
يضع فيروس كورونا الاقتصاد العالمي على حافّة الانهيار، في حال استطالت فترة الصراع معه، فالأسواق تغلق، عدا الضروري منها، ويتقلص الطلب الداخلي والخارجي، فتتراجع التجارة الدولية ومثلها التجارة الداخلية، فتتوقف قطاعات اقتصادية كاملة، بينما تتراجع قطاعات أخرى، وتغلق أسواق المال على تراجع، وتهبط أسعار أسهم الشركات، وتتوقف الاستثمارات، ويصبح النمو الاقتصادي سالبًا، وكل هذا سيرفع معدّلات البطالة، وستتراجع قدرات الدول المتقدمة على دعم اقتصاداتها وشركاتها إذا طالت فترة الصراع ضد الفيروس، وستعلن شركاتٌ إفلاسها في حال طالت فترة تطبيق هذه الإجراءات، وستكون هذه مناسبة لابتلاع الكبيرة
بدون كورونا لا يمكن فرض حالة طوارئ في بلدان ديمقراطية، والتهديد بأن هذه الإجراءات قد تستمر شهوراً، وربما حتى نهاية السنة الحالية (2020) أو بعدها، وقد بدأ الآن سباقٌ محمومٌ لإنتاج لقاح ودواء لكورونا، وتتسابق عدة دول في إعلان أنها بدأت تجاربها للدواء أو اللقاح، مثل فرنسا وانكلترا وألمانيا والصين والولايات المتحدة، إذ سيكون سوق الدواء واللقاح مصدراً لجني عشرات مليارات الدولارات من الأرباح.
على الرغم من وجود تساؤلات كثيرة حول الفيروس ليس لها جواب واضح، ما يغذّي نظريات المؤامرة والحرب البيولوجية، وعلى الرغم من التشكيك والاتهام بالمبالغات والتضخيم المقصود لمخاطر كورونا، والتوسيع المقصود في الإجراءات المتخذة من السلطات لغايات مضمرة، فإننا لا نشكك في أن خطر كورونا حقيقي وداهم، ولا تمكن مواجهته بدون إجراءات صارمة، ويأتي خطره الحقيقي من أنه ليس مجرّد إنفلونزا عادية، بل هو إنفلونزا قاتلة لنسبة قد تزيد عن 4% من المصابين، والأخطر هو سرعة انتشاره غير المسبوقة، والذي يتضاعف كل بضعة أيام، ما لم يتم احتواؤه، بما يهدّد بإصابة غالبية سكان الدول التي وصل إليها. ومع الانتشار الواسع للوباء لن يتمكّن القطاع الصحي من استيعاب الحالات المتزايدة فجأة، ما يؤدّي إلى وفاة عدد أكبر، ويقتل كبار السن والمرضى بالدرجة الأولى، ولكنه يقتل الأصغر سناً أيضاً ممن لديهم
فاق تهديد كورونا، بتأثيره، تأثير الحرب العالمية الثانية على الحياة العامة في العمق والشمول، ولكن الفترة ما زالت قصيرة. إنها حرب كونية معلنة ضد كائن في منتهى الصغر، تتحول ضمناً إلى حروب بين متنافسين أقوياء، فمن يستطيع تقدير التحولات التي ستحدثها هذه الإجراءات الشاملة على مختلف مناحي حياة الأفراد، وأنماط حياتهم وعاداتهم واعتقادهم الديني وقيمهم، في حال طالت فترة الصراع مع الفيروس، وبدء التعود على العيش باحتياجاتٍ أقل والقبول بشروط أدنى أو أقل رفاهية، مثل إعداد الطعام في البيوت، وإعادة اكتشاف قيمة الحياة الأسرية، وكذلك تأثيرها على الشركات وتنظيم العمل عن بُعد الذي سيأخذ أبعاداً أكبر، بعد أن تكتشف الشركات، عبر الإجراءات الاضطرارية الحالية، مزايا العمل عن بُعد، لم تكن معروفة لها، وتكتشف إمكانية تخفيض أعداد عمالتها وأجورها وتكاليفها ومزاياها، وكذلك سيؤدي إلى استنباط أنماط من العمل عن بُعد في المؤسسات الحكومية، إضافة إلى تقليص بعض خدماتها وربما أدوارها، بما ينتج تأثيراً على الأنظمة السياسية والاقتصادية بمجملها.
تساؤلات وظواهر لافتة
ومع إدراك حقيقة خطر كورونا الداهم، تبرز تساؤلات قد تبدو مبكّرة:
ــ ألا تؤثر هذه الإجراءات، في حال استمرت شهوراً عدة أو أكثر، في الحياة الخاصة والعامة، فتغيرها على نحو سلبي، وتؤسس لتفريق الناس وإبعادهم عن بعضهم، وأن يصبح كل فرد مرهوناً بما يصدر عن السلطات من تعليمات، بما يشبه النمط الصيني في بعض جوانبه؟
ــ ألا تؤسس المناهج صينية المنشأ لمواجهة أزمة كورونا لنهج جديد في سيطرة الحكومات على شعوبها عبر فزّاعة ما مثل كورونا، وتنمية غريزة القطيع لدى الناس، وفق النموذج الصيني الذي يتلخّص بأن مجرّد قرار حكومي قادر على إغلاق مرافق المدن والبلدان ويغير مسارات الحياة من دون قدرة على الاحتجاج؟ ألم تستخدم من قبل فزاعة الإرهاب بعد هجمات 11 سبتمبر، في عام 2001، لتنفيذ إجراءاتٍ وسياساتٍ كان من الصعب تمريرها في بلدان ديمقراطية بدون زرع الخوف من عدو ما؟
ــ أليس ثمّة خطر بتأسيسٍ لمزيدٍ من ترويض الشعوب، إذ يطل موديل صيني جديد من "الأخ الأكبر" من رواية جورج أورويل "1984" التي كتبها في عام 1947، ليفرض سيطرته ومراقبته على الناس بتعسّف، من دون قدرة على الاعتراض؟
هذه المخاطر متوقعة، لأن كورونا قد يكون نقطة الماء التي جعلت الكأس تفيض، فقد جاءت إثر بروز عدة ظواهر لافتة سبقتها:
أولاها، كما تفيد دراسات ومراكز أبحاث عديدة، بروز مؤشرات على أزمة اقتصادية طاحنة متوقعة في سنة 2020 أكبر من أزمة 2008، وهي نوعٌ من الأزمات الدورية تحدث كل عقد تقريباً في البلدان الرأسمالية المتقدّمة، وتختلف في شدّتها وشمولها، وقد جعلتها العولمة تتخذ طابعاً عالمياً. ومع الأزمات، يتوجه الناس ضد النظام الرأسمالي القائم، وتصبح الحركات الاجتماعية وحركات اليسار أقوى، وثمّة رأي يقول إن تغطية الأزمة الاقتصادية بكورونا ستمنح الحكومات حجةً تقنع شعوبها بها بأن المسؤول عن أزماتهم ليس النظام الرأسمالي الليبرالي القائم على تقديس الربح، وإنما كورونا التي تأتي منقذاً للطبقات المالية المسيطرة، والتي تركز في يدها مزيدًا من الثروة، وخصوصًا بدءًا من ثمانينيات القرن العشرين، وأدت إلى مزيد من الاختلال في توزيع الثروة وتركزها في أيدٍ أقل، حيث يملك اليوم كمشة من كبار أثرياء العالم ثرواتٍ تعادل ما يملكه نصف سكان الأرض الأقل دخلاً، أي ما يملكه قرابة أربعة مليارات إنسان، وهو تعبير فاقع عن خلل كبير في توزيع الدخل الوطني، على حساب القوى
وثانيتها بروز قابلية العولمة للارتداد، بعد أن بدأت موجة توسيع العولمة في ثمانينيات القرن الماضي بقيادة أميركية، وأخذت بعدًا عالميًا أوسع بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومعسكره الاشتراكي، وقضم جزء غير قليل من شبكة المزايا الاجتماعية، وتعميم سياسات ليبرالية تمنح كل المزايا لرأس المال على حساب قوة العمل. وبينما كانت الصين تعادي العولمة بأشكالها كافة، نرى الاتجاهات تنعكس اليوم، فترامب يعود إلى إجراءات حمائية وسياسات اقتصادية تتعارض مع العولمة، بينما نرى الحماس الصيني للمضي في العولمة وتوسيعها، ويعد مشروع الحزام والطريق الصيني عولميًا أمبرياليًا بامتياز، لم يسبقها إليه أحد، فاليوم تقلب الولايات المتحدة اتجاه بعض سياساتها ضد العولمة، بعد أن أصبحت العولمة تنتج من الآثار السلبية على القوى التي أطلقتها لصالح قوى بازغة جديدة (الصين والهند والبرازيل وإندونيسيا وغيرها)، وقد تجذّرت العولمة في واقع اليوم إلى درجةٍ تجعل ارتدادها غير قابل للتحقق.
وثالثها صعود اليمين في أوروبا، والذي يؤيد إجراءات ذات طابع شمولي واستبدادي ويعادي الديمقراطية وحقوق الإنسان، تحت شعار المصالح الوطنية العليا.
ورابعها، صعود الشعبوية اليمينية المبتذلة، والتي يمثلها اليوم كل من الرئيس ترامب في الولايات المتحدة ورئيس الوزراء بوريس جونسون في بريطانيا، والتي تعادي حقوق العاملين، وتعادي أي طابع تضامني وإنساني، وتتسم بنزعةٍ ذئبيةٍ تجاه شعوبها وشعوب العالم، وتجلت هذه الشعبوية المبتذلة في تصريح جونسون أن على مواطنيه أن يستعدّوا لوداع أحبتهم، مصرًا
وخامسها، عجز اليسار وتشتته وضعف الحركات الاجتماعية التي يمكن أن تشكل بديلًا لصعود اليمين، ولهذه التوجهات الذئبية الجديدة.
تنذر هذه الظواهر عولمة وصعود اليمين والشعبوية المبتذلة وعجز اليسار، ويضاف إليها كورونا اليوم، بحدوث تغييرات في طبيعة النظم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي ستبرز تباعًا، وستجعل العالم بعد كورونا ليس كما قبلها.
الصين وتغير العالم
سيبقى صعود الصين السمة الأبرز في التغيرات العالمية خلال العقود القليلة السابقة، وسيبقى كذلك عقوداً مقبلة. وعلى الرغم من أن انتشار فيروس كورونا في الصين بداية قد أساء لسمعتها، وخسرت صادراتها وأوجد شكوكاً في مشروعاتها المستقبلية وجدوى التعامل معها، ولكن نجاحها في احتواء الفيروس انعكس تحسناً في سمعتها، وأصبح نهجها الشمولي بالتصدي للفيروس نموذجاً تحتذيه الدول الديمقراطية. وقد يشكل ذلك بداية لأن تحذو هذه البلدان حذو الصين في مواجهة مشكلاتها الأخرى، بما سيعزز من قضم الحقوق الاجتماعية وفرض القيود على الحريات العامة في التعبير والتنظيم والتجمع، وسيتعزّز هذا بصعود الصين الاقتصادي، بحيث تصبح هي الاقتصاد الأول عالمياً، متخطية الولايات المتحدة خلال عقد. وتضع الصين سنة 2035 حداً أقصى لتحقيق ذلك، وسينعكس هذا نمواً في دورها السياسي العالمي، وسيعزّز صعود الصين السياسات المناهضة للحريات العامة، بالتضافر مع صعود أحزاب اليمين والقيادات الشعبوية المبتذلة، وخصوصاً أن الدول المتقدمة في أوروبا وأميركا واليابان
ولكل ما سبق، يتوقع أن يكون العالم بعد كورونا ليس كما قبلها، وتتوقف درجة التغيير على طول مدة تطبيق هذه الإجراءات وترتبط بها طرداً. على الرغم من أن احتمال هذه التغيرات وهذه المخاطر ما زال ضعيفاً، إذ لم تمض فترة طويلة عليها، والتي ستستمر إلى حين إنتاج عقار ولقاح يسهمان في احتواء الوباء، وتطويعه وتحويله إلى مجرد فيروس عادي، محدود القدرة على الفتك بالبشر. وعلى الرغم من أن كل هذا لن يتم بين ليلة وضحاها، إلا أنه يحمل خطر الحدوث تدريجياً، في حال طالت فترة الصراع مع الفيروس قبل التمكّن من احتوائه، ولا يقلل من خطر الحدوث سوى وعي الناس بمصالحهم وعدم قبولهم مقايضة الصحة أو فرص العمل بالحرية وفق معادلة الابتزاز "إما أو"، وعودتهم إلى التضامن الجماعي في وجه سلطة رأس المال، بعد أن تتم السيطرة على الوباء.