لقي 43 شخصًا مصرعهم وأصيب 172 آخرون في حادث تصادم القطارين الذي وقع في محافظة الإسكندرية يوم الجمعة الماضي. وتشير التحقيقات الأوّلية إلى أن سبب الحادث هو تعطل أحد القطارين وعدم إرساله إشارة للقطار الآخر ليدرك المشكلة ويتوقّف لحين إصلاح الخلل.
قبل نحو ثلاثة أشهر من الحادث، وبالتحديد في مايو/ أيّار الماضي، تحدّث وزير النقل المصري أمام الرئيس عبد الفتاح السيسي عن مشروع كلفته 10 مليارات جنيه، لتحويل نظام السكك الحديدية إلى نظام إلكتروني ذاتي يمكنه إرسال إشارات إلى القطارات الأخرى في حالة توقّف أو حدوث خلل لأحد القطارات، حتى يمكن تجنب وقوع حوادث التصادم، لكن السيسي قاطعه قائلًا: "الـ10 مليارات هذه لو وضعتها في أحد البنوك بنسبة فائدة 10% لحصلت على مليار جنيه قيمة أرباح، ولو كانت الفائدة 20% لحصلت على 2 مليار جنيه".
في الوقت الذي يفضّل فيه الرئيس السيسي وضع المليارات التي ستُصرف على تطوير السكّك الحديدية في البنك للحصول على فوائدها بدلًا من الحفاظ على أرواح عشرات البشر، لا يبدو أنه حريص على الأموال بالقدر نفسه حين يتعلّق الأمر بالعاصمة الإدارية الجديدة، التي يجري إنشاؤها بعيدًا عن القاهرة لنقل مقرّ الحكم إليها، والتي رُصد لها مبلغ قدره 45 مليار دولار، أي ما يقرب من 800 مليار جنيه.
وللمفارقة فإن القطار الذي سيتمّ إنشاؤه من مدينة السلام للعاصمة الجديدة، والذي وقع رئيس الوزراء الاتفاقية الخاصّة به قبل أيّام، سيُكلف 1.255 مليار دولار، أي ما يعادل 22 مليار جنيه، أي ما يزيد على ضعف الكلفة التي يحتاجها مشروع تحويل نظام السكك الحديدية إلى نظام إلكتروني ذاتي للحفاظ على أرواح الناس.
الأكبر من كل شيء
عندما يطالع المرء المشاريع التي يجري تنفيذها في العاصمة الإدارية الجديدة، لا يجد أن هناك فلسفة تتمّ على أساسها إقامة هذه المنجزات، سوى أنها يجب أن تكون الأكبر. فمساحة مشروع العاصمة الإدارية 168 ألف فدان، أي ما يعادل مساحة دولة سنغافورة، ومسجد العاصمة هو الأكبر في مصر بمساحة تصل إلى 29 فدانا (122 ألف متر)، وكاتدرائية العاصمة هي أكبر كنيسة في الشرق الأوسط بمساحة تصل إلى نحو 4.14 أفدنة (17 ألف متر).
وكذلك فإن مساحة حديقة العاصمة تبلغ 8 كيلومترات، أكبر مرتين ونصف من الحديقة المركزية في نيويورك و6 مرات من حديقة هايد بارك في لندن، ومبنى البرلمان يتّسع لـ1000 نائب، وبه 1000 مكتب مخصّصة للنواب.
يصل سعر متر الوحدة السكنية العادية في العاصمة الإدارية الجديدة إلى 8 آلاف جنيه، بحسب تصريحات عدد من المسؤولين عن المشروع، أي أن سعر الوحدة السكنية متوسطة المساحة سيكون في حدود مليون جنيه، وهو رقم لا تقدر أغلبية الشعب المصري على دفعه، ما يعني أن الدولة تريد لشريحة معينة فقط أن تسكن بجوارها في العاصمة الجديدة وهي شريحة الأغنياء فقط.
هروبًا من العاصمة التاريخية؟
لا يجيب أحد عن التساؤل المنطقي عن سبب إنشاء عاصمة جديدة لمصر، والتخلّي عن العاصمة التاريخية: القاهرة. فإذا كانت هناك رغبة حقيقية في تخفيف الكتلة السكنية الموجودة في القاهرة، فإن ذلك ممكن عن طريق الاستثمار في المدن الجديدة، كالشروق والعبور و6 أكتوبر وبدر وغيرها، وتبني نظام لامركزي في الحكم، وهي كلّها أمور لا تتكلّف ما يكلّفه إنشاء عاصمة جديدة.
لا يوجد مبرّر منطقي لترك القاهرة التاريخية سوى أن لدى النظام رغبة بالهروب من مشاكل العاصمة وتركها لسكانها ليغرقوا فيها، وإنشاء عاصمة برجوازية ذات أسوار عالية مراقبة بالكامل يسهل التحكّم بها وترك المدينة التي لا يمكن أن يُتحكم بها بسبب طبيعة بنيتها وتوزيعات سكّانها.
يمكن كذلك أن نرد الأمر إلى أن لدى النظام هاجس من تكرار سيناريو ثورة 25 يناير؛ عندما حوصرت الوزارات واقتحمت الأقسام والسجون وتم التهديد باقتحام القصور الرئاسية وامتلك الناس الشوارع، وبناءً عليه قرر النظام نقل مبانيه المهمّة إلى مكان يبعد عن القاهرة بـ60 كيلومترًا حيث لا تستطيع المسيرات والمظاهرات أن تصل إليه، وإحاطة نفسه بمؤيّديه فقط الذين هم في الغالب من الطبقات الأعلى دخلًا.