الظلم وحده على نفقة الدولة

02 يناير 2015

شبان مصريون يتظاهرون ضد الحكومة (28 ديسمبر/2014/ الأناضول)

+ الخط -
أعجبني تعليق مهم، أن كل شيء في مصر كان على نفقة الدولة، على الرغم من أهميته، تملصت منه، وصار "الظلم وحده على نفقتها". لفت نظري التعليق، لأنه يقدم نقداً عميقاً لـ"الدولتية" الذين صدّعوا رؤوسنا، ليل نهار، بالدولة، أياً كانت ومهما ظلمت، وبالمؤسسات، مهما كانت أو فسدت، غير عابئين بجوهر الدولة ووظائفها التي يجب أن تقوم بها، وأدوارها التي يجب أن تتوفر عليها. وصار هؤلاء، في كل وقت، يقولون لا نريد هدم الدولة، ونحن مع هؤلاء الذين يقولون ذلك، لكن الأمر، في حقيقته، أن تكون الدولة.. "دولة".
ماذا يمكننا أن نقصد بقولنا أن تكون الدولة.. "دولة"؟ أن تقوم بوظائفها، لتحفظ قدرة المجتمع وتماسكه. هذه هي الدولة القوية في مجتمع قوي، تحرك كل قدراتها نحو وظائفها الأساسية وأدوارها التي لا يمكن لكيان آخر أن يقوم عليها، ويضطلع بها. من أجل ذلك، تكون الدولة "دولة" بحق. علينا، إذن، ألا نجعل من أي نقد لسلطة أو نظام تقويضاً للدولة ونقضاً لها!، وإلا كان الأمر يسير في مسار تأسيس دولة قميئة، أو دولة متعفنة.

هل يمكن أن نرى الدولة في ظلم مقيم تقوم عليه، وتوزعه على الناس، وتجعل منه مادتها للترويع والتخويف، ثم، بعد ذلك، نطلق على هذا الكيان المتغوّل، أو "غول الدولة"، أنها دولة بحق؟ هل يمكن أن تمارس مؤسسات الدولة التأسيسية أدواراً على الضد من أدوارها المركزية والأساسية في إرساء قواعد العدل والإنصاف، وسيادة القانون، ومساواة الناس في الحقوق، وأمام القانون، وحفظ الأمن الإنساني العام الذي يجعل من الإنسان محط همه واهتمامه، والوعي الذي تشكله مؤسسات تجعل المواطن واعياً بذاته وكيانه وحقوقه وواجباته ومطالبه وضروراته؟
لا يمكن أن نعتبر الدولة "دولة"، إلا بالقيام بوظائفها وفاعلياتها، ولا يمكن اعتبار مؤسساتها مؤسسات حقيقية، إلا أن تقوم على قاعدة من المبادئ الكلية، وإنجاز أدوارها الحقيقية. هنا فقط يمكن أن نطلق على الدولة "دولة"، فحينما تهمل الدولة الفقير والضعيف، وتسود المحسوبية والرشوة، وينتشر الفساد الكبير والصغير، وتتمكّن شبكات السلطة والسلطان لتكريس الخوف العميم، فإننا، إذن، لسنا أمام الدولة، ولكن، أمام "أمر" لا ينتهك حقوق المواطنة فحسب، ولكن ينتهك أصل الإنسان وجوهر الكيان، وحقوقه الأساسية والتأسيسية. هل ما يتكشف في تسريباتٍ، هنا أو هناك، تدل إلا على دولة فاسدة مستبدة زائفة قميئة عفنة؟!
إذن، ما يجعل من الظلم في مصر على نفقة الدولة يوزع على الناس، خوفاً وجوراً، بأنصبة متفاوتة تحكم قبضة الطغيان على عموم المواطنين وكل إنسان، تهدم وتخرب العمران، تجعل من افتراس غلاء الأسعار ضعفاء الناس وفقراءهم نوعا من الإعدام (الموت) البطيء، والذي تصدره على عموم الناس، منخدعة فى ذلك بأن بعض الناس صامتون، وتجعل من سكوتهم علامة للرضا، فإن هؤلاء في حقيقة الأمر واهمون، لا يعرفون كيف أن سياسات الظلم والبطش والطغيان لا يمكنها، بأي حال، أن تستقر على أشلاء الناس، وأن خوفهم لا يمكنه أن يطول، وأن الترويع لا يمكن أن يدوم، وأن توزيع الظلم بعد توزيع الفقر لا يمكّن لدولة أن تقوم، "عُمر الظلم ما قوّم دولة".
هل يمكن أن نرى كل هذا الظلم الذي يمتد إلى عموم فئات الناس، فيستهين بمقدراتهم وضروراتهم، بل يستبيح نفوسهم وقتلهم، ويمنعهم من الكلام والتعبير فيكمم أفواههم، ويعتقل من شاء، يضعهم في غياهب السجون، يملأ بهم الزنازين، ويسجن حرياتهم. الطفل والمرأة والشاب والشيخ الكبير والأم والأب والطالب والعامل، كل هؤلاء ينالهم النصيب الأوفى من نفقة الدولة على ظلمها. وفي هذا المقام، أفتح باباً مهماً لتأسيس "علم الاستبداد" القائم على الظلم والفساد، ونتحدث، في أول مدخل له، عن نفقة الدولة المتغولة على ألوان ظلمها، فنحرك كل المعاني التي تتعلق بميزانية الظلم، حتى نتعرف على الأبواب التي تصرف فيها وعليها. إنها لا تصرف على خدمة المواطن والإنسان، ولا الخدمات له ولا العمران، إنما تنفق فحسب على أداة البطش الأمنية، وعلى دولة القمع البوليسية، وعلى ممارسات الفاشية العسكرية وسياساتها.
هؤلاء الذين يعملون في المؤسسة الأمنية، وحيث إن الطلب على البطش صار كبيراً وهائلاً من دولة الفساد والاستبداد العميقة والقميئة، تجعل من كل أمر يتعلق بمطالب الناس الحقيقية فيأتي الرد عليهم سريعا "مفيش.. معنديش.. مش قادر أديك (أعطيك).."، وإن طلب بالإكراه وبالجباية وبرفع الأسعار، يكون الشعار "هتدفع يعني هتدفع". ترتفع رواتب المؤسسات الأمنية، وتزيد بنود تمويل الاستبداد والفساد، ومعاوني الأمن بالإعدادية لتوسيع مساحات القمع والبطش بإعطائهم الضبطية القضائية، واستحداث هذه الوظيفة أمر يمكن توفير الموارد له، لأنه يخدم السياسات القمعية الأمنية، ويمكن لمؤسسات الاستبداد وتمكين شبكات الفساد. هنا، تنقلب الردود لدى هؤلاء عندي ما أعطيه لك "أنا قادر أديك (أعطيك).. هدفع لك وهغنيك".
نريد أن نرى الميزانيات التي تصرف على كل المؤسسات التي تساعد الدولة العميقة القميئة، على بقائها واستمرارها، والتي ادعى المنقلب الرئيس أن هذه المؤسسات فقط هي التي تمثل الدولة (الجيش، والشرطة، والقضاء، والإعلام). فقط، هنا، نستطيع أن ندرك لماذا تأخذ هذه المؤسسات في ميزانية الدولة نصيب الأسد، لتنتهي معظمها لتنفق على الظلم، وتنفق على البطش والطغيان والفساد، وتمول الأدوات التي تُشترى، في هذا المقام، لترويع الناس ومواجهة احتجاجاتهم وأدوات اعتقالهم، وكذا أدوات تعذيبهم، وامتهان أجسادهم وكرامتهم.
نحن، هنا، فقط نؤكد، ومن كل طريق، أننا، في عهد الانقلاب، صرنا أحوج ما نكون للإجابة على سؤال مفاده: لماذا أُلغيَ كل شيء على نفقة الدولة، وبقي الظلم وحده على نفقتها، بمؤسساته وأدواته وسياساته، وأصبحت هذه المؤسسات (مؤسسات الطغيان والبطش) أكثر البنود التي تأكل الميزانية؟ نريد، وبحق، أن نقارن ماذا يدفع للخدمات؟ وماذا يدفع لهذه المؤسسات المشاركة فى التمكين لسياسات القمع والبطش؟ هنا فقط يمكننا أن نعرف أن الدولة بوظائفها في خدمة المواطن، أم أن المواطن المصري عبد في قطيع يساق لخدمة السلطة الطاغية والمستبدة، فيما يمكن تسميته "دولة الأسياد الزائفين" الذين اتخذوا من مواطنيهم عبيداً؟
هل عرفتم، الآن، كيف يوزع الظلم وجرائره على نفقة الدولة؟ أو ما يعتبره هؤلاء "دولة"، الدولة العميقة القميئة المستبدة. يا سادة- إن كنتم سادة في أوطانكم- لا نريد هذه الدولة، ولا نملك إلا الاحتجاج والثورة، افهموا الدرس وعوه جيداً، إنه درس الدولة الحقيقية، لا دولتهم التي يمكنون لها على قاعدة التمكين للفساد والاستبداد.

دلالات
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".