من حَضروا الندوات التي شارك فيها، خلال السنوات الأخيرة، المفكرُ السوري الطيب تيزيني (1934-2019) سيذكرون إلى جانب ما سمعوه منه في شؤون الفكر، أن عينيه اغرورقتا بالدموع مرّات كثيرة، وتقطّعت كلماته، حين تفرّع به الحديث إلى ما آلت إليه بلاده والمنطقة العربية بشكل عام. في تلك اللحظات، يظهر عبر صوته المتهدّج شعورٌ بالألم والحسرة وخيبة الأمل وهو يرسم صورة سوداوية للحاضر العربي، لعلّها قريبة من الواقع الذي احتك به في سنيّه الأخيرة، لكنه في جميع تلك المحاضرات لا ينسى أن يشير إلى نقطة ضوء في آخر النفق وإمكانية النهوض مجدداً و"إعادة البناء من الصفر" بحسب إحدى عباراته.
وبغض النظر عن أحداث السنوات الأخيرة كسياق، يبدو تيزيني وقد بلغ مرحلة من اليأس منذ سنوات طويلة، لعلّ أبرز تمظهراتها توقّفه عن مشروع فكري أطلقه في سبعينيات القرن الماضي بكثير من الطموح؛ "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي من بواكيره إلى المرحلة المعاصرة"، وكان يُزمع نشره في 12 كتاباً، غير أنه انقطع عنه بعد أن صدرت منه خمسة أجزاء لا غير. يمكن أن نضيف إلى ذلك انسحابه المبكر من السياسة بعد خوض غمارها في سنوات شبابه. فلماذا كان تيزيني يتوقّف حزيناً منهكاً؟
يمكننا أن نلتمس عناصر إجابة منذ منطلقات مشواره الفكري، أي منذ أن عاد إلى سورية بُعيد نكسة 1967 إثر رحلة في جامعات أوروبا تشرّب فيها ما تشرّب من العلوم، وأتى منها بكثير من الأفكار والقراءات ستجد لها مادة في الواقع العربي الذي سيُعايشه. كانت نقطة البداية هذه تقع تحت سقف خطاب جلد الذات والقول بالمؤامرة، وهو خطاب أفضى لنشوء شعور بالمسؤولية لدى الجيل الجديد من المثقفين الذين بدوا، بفضل ما عادوا به داخل حقائبهم وفي رؤوسهم، مثل دماء جديدة تغذّي عروق البلاد العربية.
مع اكتمال عُدّته المعرفية، بعد سنوات قليلة، تبلور مشروع تيزيني وقد اختار أن يكون المنهج الماركسي أداته، واختار أيضاً مادة بحثه؛ التراث، ضمن نزعة دارجة في تلك الفترة جعلت من التراث يظهر مثل خشبة تطفو بالقرب من الغرقى.
هنا، يجدر أن نشير إلى أن تجربة تيزيني وازتها تجارب أخرى التفتت إلى التراث وجعلت منه مادتها للتفكير، وذلك باعتماد مناهج شتّى؛ ففي مصر استند حسن حنفي إلى الفينومينولوجيا والتأويلية لإطلاق مشروع "التراث والتجديد"، وهو مشروع سيكون مصيره هو الآخر التوقف عند منتصف الطريق، وفي المغرب دخل محمد عابد الجابري مغامرة "نقد العقل العربي" ليأتي بعده جورج طرابيشي ناقضاً لمخرجاته في "نقد نقد العقل العربي"، ويتحوّل التراث من "خشبة إنقاذ" إلى مادة خصومة جديدة، ثم منذ منتصف التسعينيات يغادره الباحثون إلى مشارب أخرى.
هكذا، لم يكن مشروع تيزيني استثناء في عدم الوصول إلى غاياته، ولذا فمن غير الممكن قراءة مساراته دون سياقاتها الأوسع، فهؤلاء المثقفون كانوا تعبيرات عن مجتمعات تبحث عن مخارج لأزمتها، لكن كثيراً ما تعوزها الأدوات، وإذا وفّرت هذه الأدوات، فهي تطبّقها في تسرّع دون تطويع وتنسيب.
لا يخفى هنا أن مناهج كثيرة قد جرى استعمالها عن طريق البحث لها عن فضاءات تطبيق، وهكذا كان حال التراث مع من جعلوه مادة بحثهم، مقابل نسيان لقضايا ذات أولوية أكبر في الحاضر. وقعت مدوّنة تيزيني في هذا الإشكال، وإن كان الراهن حاضراً في محاضراته ونقاشاته وعدد من الإصدارات الأخيرة، كما يُحسب له أنه استطاع تطبيق المنهج الماركسي على التراث دون الوقوع في الحمولة الأيديولوجية لهذا الخطاب، محافظاً عليه كأداة معرفية إلى حد كبير.
ورغم أن تطبيق الجدلية التاريخية على التراث كان يملأ فراغاً في المشهد الفكري العربي، من ناحية النظر إلى موروثنا الحضاري بنظرة علمية بعيداً عن نزعة التمجيد أو التتفيه؛ إلا أنه في غياب تبيئة عميقة للأدوات، بقي مشروع تيزيني بعيداً عن ملامسة الواقع. مثلاً، وضمن "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي"، أصدر تيزيني كتاب "النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة"، فأي تقبّل حظي به هذا العمل؟ لقد وجد نفسه بعيداً عن المتلقي العربي البسيط بمسلّماته عن تناقض المادة الدينية مع المنهج المادي، وهو موقف على ما فيه من أحكام جاهزة، كان حرياً بتيزيني الاشتغال عليه لتوفير بيئة قارئة لفكره، وهو ما لم يتحقق إلى انقطاعه عن مشروعه.
لكن، يبقى أنه من غير الممكن تحميل منجز صاحب "من التراث إلى الثورة" أكثر مما يحتمل، إذ علينا أن نرى في ما وراء توقف المشاريع التي أطلقها المفكرون العرب في النصف الثاني من القرن العشرين، وسنجد في الخلفية بيئة مختنقة لم تكن تضع للمفكّرين أُطر بحث أساسية، فهل ننسى هنا أن جميع هذه المشاريع إنما هي مبادرات فردية؟ وهل ننسى ما تعيشه البلاد العربية من تقلّبات السياسة والاقتصاد، ومن تضييق على المنتج الفكري ومن توظيف له؟
لقد وجد هؤلاء المفكرون حين دخلوا الساحة الفكرية العربية، بعد هزيمة 1967، أمّة محطّمة نفسياً، فكانت لهم الجرأة في محاولة بناء تصوّرات مخارج، جرأة "البناء من الصفر"، لكن ما يُحزن أن عقوداً مرّت وفي ختامها كان الطيب تيزيني يدعو إلى "البناء من الصفر" مجدداً.