04 ابريل 2016
الطيب الصديقي اللاّذع
لم يكن الطيب الصديقي يُرى إلا وسيجاره الكوبي يلاعب أصابع يديه، أو بين شفتيه. اللحية والشعر الهيبي والمعاطف الطويلة والأقمصة المهلهة، ثم سخريته وملامحه الحادة التي تكتسي طابعاً دفاعياً. كان شديد التوجس من البشر المقتحم من فنانين وغيرهم، يحتفظ بدائرةٍ ضيقةٍ من الناس والأصدقاء، ويجعل من الوصول إليه أمراً شاقاً، حتى إذا بصم لك الوسطاء صرت قريباً، أو جُعل بينك وبينه ستار لا يُخترق، مهما جرت المحاولات للتقريب والتقارب.
هذا بعض من الصديقي، رجل بين الناس، وعبقري في المسرح، وبقدر المحاولات التي جرت لسحقه ضمن استعمالات السياسيين، أو خدمة بعض أغراض حوارييه الذين انفضوا عنه لاحقاً، ليعيش عزلة شيخوخته مع ذويه، فإنه حافظ على موقف خاص من الفن، وهو حد أدنى لم يتنازل عنه أبداً. كانت التفاهات تعذبه، ولم يكن يتوانى في كيل الاتهام لمروجيها من أشباه الفنانين، وخصوصا في "زمن السيتكومات" التي كانت محط سخرية الصديقي، وظل يحذّر باستمرار من نهاية الفن على هذه الشاكلة المأساوية، التي ازدهرت في عهد التسيب التلفزيوني. وحين أطلق مشروعه لبناء مسرح الطيب الصديقي، اكتشف زيف الشعارات، والرنين الفارغ لعبارات المديح التي كان ينالها من مجتمع رجال المال والأعمال ومن المسؤولين المباشرين على الشأن الثقافي. أصيب بصدمة، ووجّه نقدا لاذعا في خرجاته (إطلالاته) الإعلامية للمجتمع المنافق والبرواز المخملي الذي يتعامل بسخافة شديدة مع القيم الرمزية.
طبعاً، فتحت عليه زيارته إسرائيل باب النبذ، فالقضية الفلسطينية شأن مركزي خالص بالنسبة للمغاربة. فلا تساهل في هذا الشأن، مهما كانت قيمة المثقف. ومنذ ذلك الوقت، أصيب الصديقي في الصميم، كأنما جرى إخراجه من القبيلة، وتحولت تلك النبرة الانتقادية التي يتحلى بها إلى أمر مشكوك فيه، شيء من عدم المصداقية، بدأ يتسرب إلى مسلكه الثقافي جملة وتفصيلا.
لاحقا، حاول الصديقي العودة. كان الوقت قد فات، لكنه ظل هو نفسه على يقين من أن دولة ما بعد الاستقلال في المغرب لم تكن في مستوى الطموح، كمشروع مجتمعي وثقافي شامل، هو الذي حاول أن يقدم بعضاً من ملامح الهوية الثقافية المغربية في علاقتها بأفقها العربي. كان على وعي تام بأنه، على الرغم من الأعطاب الكثيرة في ذات العروبة، فليس أمام المغاربة إلا الاتجاه نحوها، ليس كتهافت وذوبان، ولكن كإضافة ولمسة ضرورية في اللوحة العامة لوطن عربي، مريض بعروبته، ويئن تحت هزائمها وانكساراتها.
ومن دون شك، كان الصديقي، بما يتحلى به من ثقافة منفتحة وروح إبداعية، على خط النقاش نفسه حول سبل نحت ملامح نهضوية جديدة، هل من الآخر/ الغرب، أم من التراث كذات، والانطلاق إلى بناء هوية مركبة في الحاضر، منفتحة على تحديات المستقبل. فكان أن وجد في المقامات، وفي الوجوه التراثية المغربية، ملامح للانطلاق، من دون مركبات نقصٍ لعيش أسئلة الوقت، وانكب على صياغة سؤاله الفني، كما صاغ مسرحيون غربيون، تأثر بهم، أسئلتهم الخاصة.
وعلى الرغم من معايشة الصديقي السنوات الصعبة التي عاشها المغرب السياسي، في سنوات الجمر والرصاص، فإنه كان على مسافةٍ من الحراك السياسي العنيف آنذاك، ولم يتح لمسرحه أن يقترب من نبض تلك المرحلة أو يعبّر عنها. ما من تفسير لهذا الغياب، هو المعروف بلغته الانتقادية وجرأته العالية. هل كانت له نظرة مغايرة للصراع الذي جرى في مغرب الستينيات والسبعينيات والثمانينيات؟ أم أن علاقته الوطيدة بالملك الراحل، الحسن الثاني، جعلته يشعر بنوع من الواجب الأخلاقي نحوه، ولم يشأ أن يتحول إلى معارض له على الخشبة؟ أم أن الصديقي كان شأن عدد من وجوه النخبة الفنية والثقافية ذات الامتداد الفرنكفوني، والتي كانت تكتفي بمساندة حذرة للأحزاب الوطنية الكبرى، بعيداً عن الحركات السياسية الشبابية الناشئة، والتي كانت ترفع وقتها شعارات عالية الأفق، من دون مشروع مجتمعي شامل قابل للتحقق.
بعد رحيله، ربما يحدث تقييم شامل لعمله الكبير.
هذا بعض من الصديقي، رجل بين الناس، وعبقري في المسرح، وبقدر المحاولات التي جرت لسحقه ضمن استعمالات السياسيين، أو خدمة بعض أغراض حوارييه الذين انفضوا عنه لاحقاً، ليعيش عزلة شيخوخته مع ذويه، فإنه حافظ على موقف خاص من الفن، وهو حد أدنى لم يتنازل عنه أبداً. كانت التفاهات تعذبه، ولم يكن يتوانى في كيل الاتهام لمروجيها من أشباه الفنانين، وخصوصا في "زمن السيتكومات" التي كانت محط سخرية الصديقي، وظل يحذّر باستمرار من نهاية الفن على هذه الشاكلة المأساوية، التي ازدهرت في عهد التسيب التلفزيوني. وحين أطلق مشروعه لبناء مسرح الطيب الصديقي، اكتشف زيف الشعارات، والرنين الفارغ لعبارات المديح التي كان ينالها من مجتمع رجال المال والأعمال ومن المسؤولين المباشرين على الشأن الثقافي. أصيب بصدمة، ووجّه نقدا لاذعا في خرجاته (إطلالاته) الإعلامية للمجتمع المنافق والبرواز المخملي الذي يتعامل بسخافة شديدة مع القيم الرمزية.
طبعاً، فتحت عليه زيارته إسرائيل باب النبذ، فالقضية الفلسطينية شأن مركزي خالص بالنسبة للمغاربة. فلا تساهل في هذا الشأن، مهما كانت قيمة المثقف. ومنذ ذلك الوقت، أصيب الصديقي في الصميم، كأنما جرى إخراجه من القبيلة، وتحولت تلك النبرة الانتقادية التي يتحلى بها إلى أمر مشكوك فيه، شيء من عدم المصداقية، بدأ يتسرب إلى مسلكه الثقافي جملة وتفصيلا.
لاحقا، حاول الصديقي العودة. كان الوقت قد فات، لكنه ظل هو نفسه على يقين من أن دولة ما بعد الاستقلال في المغرب لم تكن في مستوى الطموح، كمشروع مجتمعي وثقافي شامل، هو الذي حاول أن يقدم بعضاً من ملامح الهوية الثقافية المغربية في علاقتها بأفقها العربي. كان على وعي تام بأنه، على الرغم من الأعطاب الكثيرة في ذات العروبة، فليس أمام المغاربة إلا الاتجاه نحوها، ليس كتهافت وذوبان، ولكن كإضافة ولمسة ضرورية في اللوحة العامة لوطن عربي، مريض بعروبته، ويئن تحت هزائمها وانكساراتها.
ومن دون شك، كان الصديقي، بما يتحلى به من ثقافة منفتحة وروح إبداعية، على خط النقاش نفسه حول سبل نحت ملامح نهضوية جديدة، هل من الآخر/ الغرب، أم من التراث كذات، والانطلاق إلى بناء هوية مركبة في الحاضر، منفتحة على تحديات المستقبل. فكان أن وجد في المقامات، وفي الوجوه التراثية المغربية، ملامح للانطلاق، من دون مركبات نقصٍ لعيش أسئلة الوقت، وانكب على صياغة سؤاله الفني، كما صاغ مسرحيون غربيون، تأثر بهم، أسئلتهم الخاصة.
وعلى الرغم من معايشة الصديقي السنوات الصعبة التي عاشها المغرب السياسي، في سنوات الجمر والرصاص، فإنه كان على مسافةٍ من الحراك السياسي العنيف آنذاك، ولم يتح لمسرحه أن يقترب من نبض تلك المرحلة أو يعبّر عنها. ما من تفسير لهذا الغياب، هو المعروف بلغته الانتقادية وجرأته العالية. هل كانت له نظرة مغايرة للصراع الذي جرى في مغرب الستينيات والسبعينيات والثمانينيات؟ أم أن علاقته الوطيدة بالملك الراحل، الحسن الثاني، جعلته يشعر بنوع من الواجب الأخلاقي نحوه، ولم يشأ أن يتحول إلى معارض له على الخشبة؟ أم أن الصديقي كان شأن عدد من وجوه النخبة الفنية والثقافية ذات الامتداد الفرنكفوني، والتي كانت تكتفي بمساندة حذرة للأحزاب الوطنية الكبرى، بعيداً عن الحركات السياسية الشبابية الناشئة، والتي كانت ترفع وقتها شعارات عالية الأفق، من دون مشروع مجتمعي شامل قابل للتحقق.
بعد رحيله، ربما يحدث تقييم شامل لعمله الكبير.