الطعام ودوره في التأسيس للعلاقات الاجتماعية

11 يوليو 2016
(الدار البيضاء: شركة النشر والتوزيع المدارس، 2016)
+ الخط -
إذا كانت قرابة "الدم" و"الرضاعة" تخلق علاقات وشيجة ومن الدرجة الأولى بين الأفراد، فإن قرابة "الملح" أو الطعام على الشاكلة نفسها ولكنها الوحيدة التي تعكس تصورات وثقافة مجتمع ما، ورؤيته للكون والحياة، كوْن الطعام حاملاً لرموز وشيفرات تحولات هذا المجتمع من الثابت إلى المتغيّر، وكونه أكثر فعالية في قراءة الانتقال من المستوى الهامشي إلى المركزي ومساعداً لها ومنتجاً للمعنى الثقافي - العقائدي - والديني لمجتمع ما، ويصوغ العلاقات الاجتماعية داخله.

رائد البنيوية، ليفي ستراوس، ومن خلال "المثلث المطبخي"، أوضح أن التعامل مع الطعام لا يكون معزولا عن النسق الثقافي الذي ينتمي إليه "الفاعل الغذائي"، فكلّ طعام وكلّ تدبير ممكن لهذا الطعام يتأسس على سيرورة ثقافية يختزن رموزاً وطقوسا تفيد في تأويل الثقافة السائدة ويحدد احتمالات التراتب والبناء الاجتماعي، ولعلّ التفاتة الباحث المغربي عبد الرحيم العطري، في كتابه الأخير "قرابة الملح - الهندسة الاجتماعية للطعام"، جاءت من هذه الخلفية، حتى يُبيّن لنا دور الطعام في توطيد العلاقات والمواثيق المبنية على المقدس (الطعام) في المجتمع المغربي، مستخلصاً على أنه ثقافة دالّة و"هندسة اجتماعية" تُمَكّن من قراءة المجتمع وتصوراته حول الطعام والشروط الاجتماعية المرتبطة به وطقوسه وطريقة ممارسته.

"نديرو الملحة في الطعام" و"الملحة بيناتنا"، تعبيرات شفوية مقترنة بـ"قرابة الملح" سائدة في المجتمع المغربي، تعكس وتترجم دون شعور بنيته، فالباحث الذي اعتمد على تقنيات المقابلة والبحث الميداني في مناطق مغربية تختلف بطبيعة الطعام فيها، يجد أنه رغم التحولات التي يعرفها المجتمع مع البروز الفردي وتراجع الجمعي، إلّا أن الطعام يظل مؤسسا للجماعي ولو في مستويات موسمية وطقوسية.

الطعام الذي يعتبر "نسقا تواصليا بامتياز يستوجب قراءة سيميولوجية" عند رولان بارت، بحيث يتجاوز الطابع الغريزي في إشباع الجوع ويتحول إلى طبق من التاريخ والأفعال والتمثلات، هو علامة هوية ويؤسس لحدود إثنية ودينية وطبقية وسياسية وجنسية أحيانا، فعندما نقتسم الدجاج على الطعام، لا إراديا يذهب الصدر للرجل باعتباره يحتل الصدارة في الأسرة فهو المعيل الذي يمتلك سلطة التدبير، والأفخاذ للذكور الذين يضمنون إعادة إنتاج السلطة الأبوية أما الأم فلها الكبد والقانصة فضلاً عن الأجنحة التي تقتسمها مع بناتها، مع ما في ذلك من إنتاج للتمييز الذي يتواصل بصيغ متعددة داخل المجتمع، ولكنها آخذة في التآكل نتيجة التحولات الديمغرافية التي يعرفها المجتمع اتصالا بانتقال السلطة المعرفية إلى الإناث وعوامل أخرى. وكلّ طبق تقف وراءه ممارسات للتطوير والتثاقف ويستند بناؤه إلى أداء اجتماعي تعددي المصادر، فعندما نحضر الدجاج "البلدي" بالأعشاب "المسخنة" الذي يهيأ للأزواج الذين تأخروا في الإنجاب لتقوية قدراتهم الجنسية ليس كمثل طبق "الكسكس" الذي يهيأ للمرأة التي تعاني من العقم، فهذان طبقان يعكسان مدى السلطة الذكورية والخصوبة ويتوصلان بالمعتقدات المؤسسة للزواج والولادة والرساميل المادية والرمزية التي تتولّد عن الإنجاب وعن أدوار الجنس في التراتبات الاجتماعية.

وليس هناك مبرر أكبر من مركزية الطعام في الحياة اليومية في إقامة المناسبات الاجتماعية والدينية يوضح الانشغال المعرفي بأبعاده الدلالية، فقد انبرى الباحث لدراسة المفاهيم المتعلقة بالوجاهة المغربية وما يُعرف محلياً بـ"الزرود" و"العراضات" التي تعتبر السياق الأمثل لاستعراض الرساميل وتقوية المكانة الاجتماعية عندما تفتح لها أبواب "الدار الكبيرة" أو الخيمة ويقوم خلالها الأعيان القائمون على الشأن المحلي بتعزيز مكانتهم الاجتماعية وتحصين وجاهتهم عبر آلية الإطعام، تُضاف لهم الزوايا التي انطلقت في البداية بتوفير الطعام لعابري السبيل، أدى ذلك لاحقاً إلى توسيع قاعدة أتباعها وإلى تطوير دورها الاقتصادي انتقالا إلى السياسي في حالة اختلال موازين القوى. فأصبح الإطعام على المستوى الرسمي سلوكاً منمّطاً وقانونا اجتماعيا يحدد سلوك الراعي، وهذا ما يُعرف مفاهيميا بـ"التقعيد الاجتماعي"، والإخلال بهذا السلوك قد يزعزع مكانة الواهب للطعام ويقلل من هيبته ومكانته.

ولطالما ربط المغاربة الطعام بـ"النعمة" وتعاملوا معه على أنه مُقدّس. يُضاف له الملح بحكم حيويته في بناء الطعام، لكن عصر الحداثة الغذائية أنتج فوضى وارتباكاً في ضوابط المائدة تتراجع فيه قرابة "الملح" لصالح الطعام الفردي في "ماكدونالدز" وما شابهها من أماكن الاستهلاك السريع، ما يدلل على توجهات جديدة للمجتمع الحداثي المغربي.

(صحافية فلسطينية)

المساهمون