كانت الرحلة مضنية لامرأة أربعينية، تسافر قرابة اليومين بالسيارة من مدينة الدمام شرقي السعودية، إلى البصرة في العراق، في منتصف التسعينيات من القرن الماضي.
كانت تستقل إحدى حافلات النقل العام، لتنقلها من مدينة الدمام إلى العاصمة الأردنية عمّان، لتذهب بعدها لزيارة والدها ووالدتها في البصرة، جنوبي العراق. رحلة تستغرق ما يزيد على 24 ساعة بالسيارة، وتتضمن الانتقال من حافلة النقل العام، إلى استئجار سيارة خاصة في العاصمة الأردنية، لتقوم بنقلها مع مجموعة من النساء للقاء ذويهن في العراق.
تلك الرحلة، التي قد تستدعي أشهراً من التخطيط والتجهيز، والكثير من التعقيدات، كانت قبل 1991 تجري كرحلة سياحية، ربما تشبه في سهولتها ويسرها ذهاب العائلة من الدمام إلى المنامة في البحرين، لمشاهدة فيلم سينمائي وتناول العشاء، ثم العودة مرة أخرى عبر جسر الملك فهد، في رحلة نصف الساعة.
الذهاب إلى العراق في ذروة الحصار الاقتصادي آنذاك، كان مرهقا أكثر مما يتصور، فلا يتوفر طيران جوي مباشر، كما أن الحدود العراقية – الكويتية القريبة والمتيسرة مغلقة، وهناك الكثير لإرساله إلى العراقيين القابعين تحت سياط الحصار الاقتصادي الدولي، فلا يمكن أن تزور العراق بحقيبة صغيرة، وبلا مؤونة.
تلك الرحلة المضنية من الدمام إلى البصرة، كانت تتضمن نقل حقائب كبيرة من الملابس، وكميات من الأغذية المعلبة، والكثير من اللوعة والاشتياق، فرحلة كهذه لن تتكرر قبل سنوات قد تطول، لا يحتملها قلب أربعينية تجاه والدها ووالدتها وأخوتها.
لاحقا، بدأ الانفراج في العلاقات العراقية– الخليجية، وانعكس هذا على رحلة العذاب تلك. إذ بدأت البحرين بتسيير رحلات بحرية إلى البصرة، فارتدت الرحلة البرية إلى بحرية، وأصبحت الباخرة تخرج من المنامة لترسو في البصرة خلال ما يقارب عشر ساعات، لتخفف من عناء السفر برا.
اليوم، وبعد عودة العلاقات الكويتية– العراقية، تقلصت هذه الرحلة لتصبح لا شيء يذكر، لم تعد المسافة الفاصلة بين المرأة الخمسينية (لم تعد أربعينية الآن)، ورؤية من تبقى من أقاربها في العراق، إلا قطع الحدود العراقية– الكويتية.
رحلة اليومين عبر العاصمة الأردنية عمّان برا، تقلصت إلى 10 ساعات عبر العاصمة البحرينية المنامة بحرا، ثم عادت لتصبح أقل من ساعة، برا، عبر منفذ صفوان الحدودي بين الكويت وجنوب العراق.
لكن ظهرت مشكلة أخرى، لا يبدو أنها في طريقها للحل في القريب العاجل، فالوضع الأمني اليوم داخل العراق، يمنع المرأة الخمسينية من زيارة أقاربها، خشية على حياتها، فالاضطراب الأمني وسيطرة المليشيات، جعلت تلك الرحلة القريبة جدا، شبه مستحيلة، بالنسبة إليها.
لكن الانفراج في العلاقات العراقية– السعودية، لا يخلو من تأثيرات أوسع بكثير، من رحلة المرأة الخمسينية إلى ذويها، فالنشاط الاقتصادي بلغ معدلات عالية بعد رفع العقوبات الاقتصادية عن العراق، لكن الأهم، أن الزيارات الدينية إلى العراق بلغت معدلات غير مسبوقة، منذ فتح الحدود العراقية الكويتية.
تمكن الشيعة الخليجيون، خاصة من السعودية والبحرين، والكويت بطبيعة الحال، من زيارة العتبات المقدسة في كربلاء والنجف بشكل أيسر، ما جعل الاتصال الديني بينهم وبين أقرانهم العراقيين أكبر مما كان عليه قبل ذلك.
تلك الزيارات غيرت في بعض عادات المواسم الدينية في الخليج، فبدأ بعضهم يتحدث– على سبيل المثال– عن التطبير "ضرب الجسد بآلات حادة خلال موسم عاشوراء" كعادة مستوردة جاءت إلى الخليج حديثاً، عبر انتقالها من الشيعة الإيرانيين والعراقيين، لكن تم تحجيمها خليجيا، حتى ما عادت تذكر.
أصبح العراق أقرب إلينا بكثير، عما كان عليه في التسعينيات، أقرب إلى الحد الذي أصبحنا نخشى فيه انتقال الأمراض والعدوى بالكوليرا من العراق إلى الخليج عبر الحدود الكويتية، حيث يتنقل مئات الخليجيين يوميا، ذهابا وعودة.
اقرأ أيضا:عراقيون وكويتيون: الحرب لم تدمّر علاقة الشعبين