الطاغية والمسجد

14 يناير 2019

مسجد الفتاح العليم في القاهرة (3/1/2019/فرانس برس)

+ الخط -
انتشرت صور المسجد الكبير الذي افتتحه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، في العاصمة الإدارية، والذي حمل توريةً في اسمه، فعوضا عن اسم الرئيس، حمل لقب مسجد الفتاح العليم، في محاكاة لمسجد نظيره التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، الذي بنى مسجدا ضخما حمل اسم جامع العابدين. في تلك الأيام، انتشرت نكتة بين التونسيين أن أحد المواطنين مر بجامع العابدين الذي أمر ببنائه الرئيس المخلوع، ووجد مصليا يوم الجمعة جالسا وهو يمد ساقه خارج الباب، فركله بشدة قائلا: أدخل ساقك إلى داخل المسجد، لأنه إذا رآها الرئيس فقد يبني جامعا آخر أكبر حجما ينفق عليه ما تبقى في ميزانية الدولة. ربما كانت طرفةً تصلح لمساجد عربية كثيرة أنفق عليها الحكام من المال العام، فقط لإظهار هوسهم بالعظمة وتخليد أنفسهم نموذجا للإيمان المتجلي في مساجد رخامية عظيمة، وثريات تشع بأضواء لامعة، فيما تمكث غير بعيد عنها جموع الفقراء، يتسوّلون كفاف يومهم.
يجد المتابع لتاريخ الطغيان العربي حالات متكرّرة لهذا الهوس العمراني لدى الطغاة، خصوصا في بناء أماكن العبادة، فمن مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء، إلى مسجد الجزائر الكبير الذي أمر بتشييده الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وجامع العابدين في تونس، وجامع أم المعارك في بغداد، ووصولا إلى جامع عبد الفتاح السيسي، يشترك الطغاة العرب في هذه الرغبة المُلحّة في تخليد أسمائهم، عبر بناء مساجد ضخمة ينفقون عليها من المال العام، من دون حساب، لكنهم، في النهاية، وعند رحيل أنظمتهم، لا يذكر الناس من مآثرهم شيئا غير سنوات القمع والرصاص، ففكرة تخليد الذات عبر أبنية ضخمة هي إفراز طبيعي لنفسية الطاغية، ورغبته في التألّه، بالمصطلح الخلدوني. وقد يختلف الطغاة في طبيعة المبنى، ويشتركون في الرغبة الثاوية التي تحكم سلوكهم المتناقض بين محاولة الظهور بصورة العظماء في مقابل تقزيم الشعوب التي يحكمونها، فمن بناء كنيسة سيدة السلام في الكوت ديفوار التي أشرف على بنائها فيليكس بوانييه، طاغية كوت ديفوار في حينه، ومرورا بقصر الشعب الذي أصر على إنشائه تشاوشيسكو، دكتاتور رومانيا السابق، ووصولا الى جامع الفتاح العليم الذي افتتحه دكتاتور مصر الحالي عبد الفتاح السيسي، كان الجامع بين هذه المشاريع المختلفة أنها كانت تجسيدا لرغبةٍ سلطويةٍ جامحةٍ للفرد مطلق الصلاحيات، وأدت إلى استنزاف موارد البلدان، وأفقرت الشعوب، وتحولت من فكرةٍ لتخليد أصحابها، كما كانوا يحلمون، إلى بناياتٍ تشهد على أزمنة الاستبداد.

ميل الطاغية الى إعادة تغيير تاريخ البلاد التي يحكمها، ومحاولة صبغها بصورته الشخصية، باعتباره الحاكم الأعظم الملهم الذي ينبغي تقديسه، هو مرض سلطةٍ لا يمكن أن يشفى منه الطاغية المختل، والأكيد أن التاريخ لن يغفل عن ذكر هؤلاء. ولكن بعكس انتظاراتهم، لم يذكر أحدا من هؤلاء بوصفه من أسس لمعالم نهضةٍ جديدة في بلاده، أو باعتباره من ضحّى لأجل الحرية، وإنما باعتباره طاغيةً تحكّم في كل شيء، وسخّر الموارد جميعا لخدمة نزواته، وأنه بقدر تورّم ذاته وتضخمها، في ممارسة هيمنته على شعبه، بقدر ما كان وضيعا متصاغرا أمام حكام الخارج، طالبا ودّهم، وراغبا في رضاهم عنه، فبقدر شعوره بالدونية والضعف والحقارة داخل ذاته، وفي علاقته بالقوى الكبرى المتحكّمة في مصير حكمه، يتحول الطاغية إلى صورة البطل القوي القادر، ذي الرؤية الثاقبة في تعامله مع أبناء شعبه. وكما تروّج أذرعه الإعلامية في كل حين، من أجل إقناع المحكومين أنهم أمام فلتةٍ تاريخيةٍ قلّ نظيرها.. ألم يعلن ولي عهد العربية السعودية، محمد بن سلمان، عن مشروع نيوم الضخم، وروجت أجهزة دعايته ما سمته السعودية العظمى، فيما كان فاقدا أدنى قيمة، أو تأثير، في حضرة نظرائه من حكام الدول الأخرى، إلى الحد الذي جعله يشعر بالعزلة والاحتقار في أثناء مشاركته في قمة العشرين في الأرجنتين أخيرا.
الطاغية لا يفتأ يكرّر الخطايا نفسها التي اقترفها أمثاله عبر التاريخ، فيما تعمى بصيرته بفعل الأوهام التي يزيّنها له الأتباع والمنافقون الذين يحيطون به، ويسبغون عليه هالةً مقدسةً تمنحه شعورا زائفا بالقدرات الخارقة، وترفعه إلى مقام الآلهة، ولكنه إله مزيّف، سرعان ما يفقد بريقه في مواجهة الوقائع والأحداث، فشتان ما بين مانديلا أو فاكلاف هافل وكل الحكام البشر الذين خدموا أوطانهم وبين هؤلاء المختلين الذين يجثمون على شعوبهم، ويكتمون أنفاس مواطنيهم، ويقتلون فيهم كل رغبة في النهوض والتحرّر.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.