الطائفيّة والثورات العربيّة: من منظور شبابي

11 يونيو 2015
سورية لكل السوريين (Getty)
+ الخط -
لم تكن الطائفيّة "كظاهرة" حدثاً استثنائياً يواجه البلدان العربيّة التي شهدت ثورات واحتجاجات مطلبيّة، ضد أنظمة القهر والطغيان والاستعباد، فالكثير من البلدان العربيّة تعاني من هذه المعضلة كـ"العراق"، الذي عاش أزمة طائفيّة مزمنة بعد الاحتلال الأميركي الذي كان له الدور الأكبر في صعود هذه الظاهرة وتكريسها، ولبنان الذي مازال يتعايش مع هذه الظاهرة كواقعٍ مفروض على هذا البلد منذ استقلاله.

من هذا المنطلق يصحّ أن نوصّفَ الطائفيّة كظاهرةٍ مرضيّة مستفحلة تشكّلُ خطراً حقيقياً على هذه الثورات، التي كانت بارقة أمل في صناعة وعي عربي جديد وقدّمت نموذجاً جديداً في تغيير الذهنيّة العامة، لكنَّ الطائفيّة التي رافقت التحوّلات التي صاحبت هذه الثورات، وعودة القوى التقليديّة مجدداً بعد الإطاحة بالعديد من أنظمة الحكم، شكلّت التحدي الأكبر لهذا المنجز الهام الذي قدمته الثورات.


في الإطار التوصيفيّ للطائفية، يقدّمُ الباحث العراقي موسى الحسيني هذا الشرح لظاهرة الطائفية: "إنها حالة مرضية، كأية حالة من حالات الهستيريا الاجتماعية التي تصيب المجتمعات عامة، ونموذج نكوصي لمجتمع ظلّت كتب التاريخ تتغنّى بأمجاده وأدواره التاريخية في المساهمة في تطور الحضارة العالمية، لكنه يعيش في الواقع حالة من التردّي والانحطاط والتخلف، ما يضعه على هامش التاريخ والحضارة".

من هنا كان لابدَّ أن نسأل أنّه في ظل التغيّرات والتحولات التي رافقت الاحتجاجات والثورات التي شهدتها بلدان الربيع العربي وحوَّلتها إلى حروب دامية، هل أصبحت الطائفية واقعاً مكرَّساً لا يمكننا الفكاكُ منه أم حالة عابرة تنتهي بزوال مسبباتها؟؟. وما هي الأدوار المنوطة بالشباب والتي من المفترض أن يقوم بها لمجابهة هذا التوجه الطائفي السائد والحد من خطاب الكراهية الذي طغى على غيره من الخطابات الوطنية أو العقلانية؟؟.

وللنقاش والاستفاضة أكثر في هذه الظاهرة كان من الضروري استمزاج آراء عينة من الشباب بوصفهم العناصر الرئيسية لهذه الثورات والأكثر معايشة لهمومها ومشاكلها.

في هذا الإطار يعلّقُ "أبو غيث" وهو اسمٌ مستعار لشاب يقطن في مدينة الرقة السوريّة قائلاً: في هذه الأيام توجد عينة كبيرة من الشباب أقدّرها بنسبة 70% انساقت وراء التجييش والخطاب الطائفي، والسبب في هذا الانسياق هو دور النظام السوريّ والتنظيمات المتطرفة في إعلاء دور الخطاب الطائفي واعتماده كأداة من أدوات الهيمنة والتسلّط.

أما القسمُ الآخر من الشباب، والذي أعوّل عليه، فيرون أنّ ما هو حاصل نتيجة طبيعية للواقع الراهن وأنّ حل المواطنة هو الأمثل بغض النظر عن الإثنية والطائفة والعرق لأنّ الحروب منتهية لا محالة، ولن يستطيع أي طرف أن يفني الطرف الآخر، وفي النهاية لابدّ من التعالي على الجراحات من أجل مستقبل أفضل لأولادنا.

ويرى أبو غيث أنّ للشباب دوراً رئيساً في التوعية من مخاطر هذا الخطاب والاستفادة من تجارب الدول الأخرى التي مرَّت بظروف مشابهة كجنوب أفريقيا على سبيل المثال.

سارة الشيخ علي ناشطة مدنيّة لبنانية أضافت تعليقاً على ذات الموضوع: مما لا شكّ فيه أنّ الطائفيّة في لبنان معضلة أساسية يزداد تأثيرها السلبي على الدولة والمجتمع، مع تزايد الأزمات الداخلية والصراعات الإقليمية والدولية.

ولكن يبقى الأثر الأكبر للنظام الطائفي اللبناني الذي كرّس التقسيم الطائفي والديني قانونا "في بعض المواد الدستورية وفي الميثاق الوطني، أما في سورية فالوضع مختلفٌ بل هو أفضل رغم دمويته، فالمجتمع اللبناني خلال حربه الأهلية الطائفية لم تظهر فيه أصوات تنادي بالسلميّة واللاطائفية والمدنيّة إلا نادرا".

على عكس الحالة السورية التي ترتفع فيها هذه الأصوات ويعود ذلك إلى عوامل عدّة منها: استفادة الشباب السوري من التجارب في محيطه كالحرب اللبنانية، والعراقية، والعراقية ــ الكويتية وغيرها.

عنف الجماعات المتطرفة الدينية الذي تسبب بنفورٍ عام منه لدى المجتمع، كذلك نظام الأقلية المذهبي الذي مارس أبشع أشكال الإجرام بحق معارضيه من كل الفئات، التجارب العالمية التي أثبتت أن علمنة الدول هي الطريق نحو التقدم الاقتصادي والاجتماعي.

المجتمع السوري نفسه ليس منقسماً ديمغرافيا إلى "كانتونات" طائفية تكاد تتساوى عدديا، كما المجتمع اللبناني، والمعركة في سورية أطلقها شعب بمعظم مكوناته في وجه نظام قمعي، وليس طائفة بوجه أخرى لإلغائها، لكن باعتقادي أن التململ الكبير الذي سبَّبتهُ الطائفيّة العنيفة في صفوف مواطني هذه المنطقة سينتجُ منه حالة مدنية عابرة للطوائف يؤسّس لها الشباب الذي عانى من هذا التفتيت المذهبي والقبلي ونتائجه الاقتصادية والاجتماعية الكارثية التي يتأثر بها الشباب بشكل أساسي.

وفي رؤيتها لدور الشباب لمكافحة هذه الظاهرة ومواجهتها تقولُ سارة: من الأدوار التي يمكن للشباب السوري تحديدا، أن يقوم بها خدمة لمجتمعه، الإصرار والالتزام بعملية عدالة انتقالية في البلاد التي تشهد نزاعات، فتحقيقها هو الطريقة الأمثل لإنصاف ضحايا النزاعات وبالتالي الحد من إراقة الدماء أو إمكانية الانتقام، مما يمهّد الطريق أمام مصالحة حقيقية في المجتمع تختلف عما هو الحال في لبنان حيث ما زالت النزاعات مستمرة، وإن كانت مبطنة بعد أن انتقلت من مرحلة السلاح إلى مرحلة الصراع السياسي والمناطقي. وبالإمكان الاستفادة من تجارب الدول التي عانت نزاعات طائفية وعنصرية دموية وكيفية تحقيق السلام والمصالحة الوطنية والانتقال الديمقراطي فيها، كرواندا وجنوب أفريقيا وكولومبيا مثلا.

زردشت عيسى شاب كردي سوري معتقل سابق وأحد المشاركين في منتديات ربيع دمشق التي سبقت الثورة السوريّة، كان له رأيه الخاص حول ذات الموضوع إذ يقول: الأنظمة هي التي كرست الطائفية؛ لأنها لم ترتقِ قطعاً إلى مرحلة الدولة الوطنية، لأنها كانت منشغلة بمسألة الحكم المؤبد، فأنتجت عقولاً مفتقرة للوعي ومفتقدة لأدنى مواصفات ومعايير الوطنية الحقيقية، ومع ثورات الربيع العربي تقلّص حكم الأنظمة وانحسرت سلطة الدولة فبدأ الخرابُ السياسي الذي خلَّفته الفئة الحاكمة يتجلى بقوة، وعادت الخطابات الطائفية والقبلية المكبوتة إلى الصعود، على سبيل المثال، في سورية، الأقلية "العلوية" خطفت الدولة لتكشف الحقيقة المستورة على مدار عقود، ولتؤكد أن سورية لم تصل إلى مرحلة الوطنية قطعاً.

ويرى زردشت أنّ مجابهة هذا الخطاب الفاشي تتم عن طريق إعداد مناهج تربوية جديدة تعتمد على التربية المدنية والقيم الخلقية الذاتية، والابتعاد عن طرق الحشو والتلقين في التدريس (المعلم هنا يظهر بصورة المستبدّ الذي لا يمكن محاورته ولا يخطئ)، وتوفير فرص العمل والتنمية والاعتراف بالاختلاف وعدم التفريق بين الشعوب على أساس ديني أو مذهبي أو إثني.

أما الطبيب والمعتقل السابق لدى النظام السوريّ مثنى الساير، فيلخَّصُ الموضوع كالآتي: المُسَبِّب الرئيسي للطائفيّة في منطقتنا هي "الديكتاتوريات"، والتعاطي من قبل الحكام المستبديّن مع الطائفية كان دوماً على أساس أنّ الطائفية هي أداتهم للحكم، وعلى ذلك فزوال الديكتاتوريات هو مفتاحٌ التخفيف من هذا الاحتقان الطائفي وربّما الفكاك منه على مدى أبعد، والحل بحسب مثنى يكمنُ بالابتعاد عن تبنّي الخطاب القائم على شيطنة الآخر واستبداله بخطاب عقلاني مُتَّزِن.

وأخيراً قد يُقال: إنّ الثورات العربيّة ومآلاتها المتغايرة والمتنوّعة قد أخرجت المكنونات الطائفيّة إلى السطح، وتوضَّح الخطاب الطائفي بعد سنوات على بدئها، لكنّها في الوقت عينه ابتدعت خطاباً واعياً جديداً، يؤّكد على أنّ الحكم للشعب وليس للحاكم ولا لأغلبية على أقليّة، وعندما يتمُّ تبنّي هذا الخطاب الواعي كثمرةٍ من ثمار هذه الثورات يتمثّلُ في المساواة بين القاطنين على ذات الرقعة الجغرافية الواحدة، حينها يمكن القضاء على الطائفيّة والتغلّبُ على هذا المرض العُضال الذي أصاب بلداننا.

(سورية)
المساهمون