الطائفيّة طارئة.. العشائر العراقيّة العربية تحتضن النازحين

09 سبتمبر 2016
ما يجمع أكثر مما يفرّق (عمر العلو)
+ الخط -
أحياناً، يكون الانتماء للوطن أقوى من الانتماءات الطائفيّة، التي نمت بعد الاحتلال الأميركي للعراق. تمثّل ذلك في احتضان العشائر العربية في جنوب العراق آلاف النازحين العراقيين السنة، من الموصل والأنبار وتكريت ومدن أخرى، للعام الثاني على التوالي. هؤلاء يقيمون في قرى ومنازل ومناطق نفوذ العشائر، "ما جعل الكثير من العراقيين يراجعون أنفسهم"، كما يقول الشيخ، حسين عبد الزهرة الشمري، أحد شيوخ شمر في مدينة كربلاء جنوب العراق. ويصف الأمر بأنه "طبيعي بسبب قوّة الجذور بالمقارنة مع الأغصان"، في إشارة إلى أن ما يجمع أكثر مما يفرّق.

بعد اجتياح تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" مناطق شاسعة في البلاد، وبدء الاقتتال الذي تحوّل إلى طائفي، طغت الأخبار والتقارير ذات الطابع الطائفي على كثير من المواقف الاجتماعية في الشارع العراقي. أدّت الحرب إلى نزوح نحو خمسة ملايين عراقي من مدنهم، واضطر غالبيّتهم إلى الانتقال إلى إقليم كردستان العراق أو العاصمة بغداد. إلّا أن عشرات الآلاف الآخرين انتقلوا إلى أقصى الجنوب العراقي، حيث مضارب العشائر العربية، التي وفّرت لهم الحماية والأمن والعيش بعيداً عن سطوة رجال الدين والجماعات المتطرّفة.

كربلاء والنجف والبصرة وبابل وذي قار والقادسية هي من بين المدن الجنوبيّة التي توجّه النازحون إليها. يقول الشيخ حسين عبد الزهرة الشمري، لـ"العربي الجديد"، إن "وجود نازحين بيننا ليس غريباً بل هو أمر طبيعي"، لافتاً إلى أن العرب عادة ما يهتمّون بإكرام الضيف وإغاثة المحتاج " حتى لو كان يهودياً. فكيف لو كانوا إخوة لنا في الوطن والدين؟".
يتابع الشمري: "ربّما لا تظهر وسائل الإعلام المحلية أواصر الأخوة والمودّة بين مكونات الشعب العراقي، وما يظهر هو المناكفات السياسية فقط، التي تنعكس على البلاد بشكل سلبي، ليذهب ضحيّتها العراقيون من جميع الطوائف والأعراق والأديان". ويلفت إلى أنه يستضيف وأبناء عمومته نحو ألف عراقي من عشيرة شمر في الأنبار وعشيرة الدليم وعنزة. يضيف أنه "بسبب العدد الكبير، غادر البعض إلى كردستان، لكنّنا رفضنا ذلك وحوّلنا مدرسة في منطقتنا إلى مركز لإيوائهم، ونأمل أن يعودوا قريباً إلى ديارهم سالمين، وتبقى بيننا أخوة ومودة".

لا يختلف الأمر في مدينة النجف (جنوب بغداد)، إحدى أشهر المدن الدينية. توجّهت إليها مئات الأسر النازحة من مناطق وسط وغرب البلاد، حيث رفض الأهالي أن تمكث الأسر في مخيّمات النزوح في الصحراء. الشيخ مظهر الربيعي هو أحد شيوخ عشائر النجف. كان أحد الذين استقبلوا الأسر النازحة، واستنفر أبناء عشيرته لجمع التبرعات واستضافة النازحين.



يوضح أن "الساعات الأولى لدخول النازحين إلى مدينة النجف قبل نحو عامين كانت مؤلمة ومفرحة في وقت واحد. لحسن حظّنا أننا استضفناهم". يضيف أنه "من عادة العرب إغاثة الدخيل، فكيف إذا كان من أهلنا وأشقائنا في المدن الساخنة؟ ما الطائفية سوى أمر طارئ ومرحلي في البلاد، تسبب الاحتلال بها في العملية السياسية البائسة التي دمّرت العراق وشعبه".

إلى ذلك، يتّهم الربيعي رجال الدين في العراق، من مختلف المكوّنات، بتغذية الطائفية في البلاد وإشعالها، بالإضافة إلى الاحتلال الأميركي والعملية السياسية التي بنيت على أسس طائفية، والتي تحكم العراق اليوم. يشير إلى أن عشرات الأسر النازحة توجّهت إلى أقصى الجنوب أي البصرة (543 كيلومتراً جنوب بغداد)، لافتاً إلى أن عشرات الأسر النازحة من الأنبار وصلاح الدين والموصل وديالى اتجهت نحو الأقارب والأصدقاء في مدينة البصرة.



وكان لعشائر البصرة دور بارز في استقبال النازحين واستضافتهم وتوفير ما يلزمهم من وسائل العيش. هذا الأمر وصفه النازحون بـ "التاريخي" رغم محاولات زرع الفتن بين العشائر العربية في وسط وغرب وجنوب العراق. يوضح الشيخ مثنى التميمي، وهو من شيوخ عشائر البصرة، أن "عشائر البصرة استقبلت النازحين من المدن الساخنة، وهذا واجب إنساني وعروبي أصيل تفرضه عاداتنا وتقاليدنا العربية". ويشير التميمي إلى أن "التكافل والتضامن المجتمعي مع أهلنا من المناطق الساخنة دق آخر مسمار في نعش الطائفية التي أثّرت على العراقيين بشكل كبير خلال السنوات الماضية، بسبب رجال الدين من كل الطوائف والأحزاب الدينية الحاكمة التي أحرقت البلاد".

يتحدّث حازم الأنباري، (51 عاماً)، وهو من أهالي الرمادي، عن أحد المواقف التي تركت أثراً فيه. يقول إن صديقاً من مدينة كربلاء كان قد ائتمنه على سيارته قبل بدء المعارك. في وقت لاحق، حاول إيصالها إليه رغم خطورة الوضع وسيطرة تنظيم داعش. وقد خاطر بحياته لإيصال السيارة إليه من خلال وسطاء. يقول الأنباري لـ "العربي الجديد": "حين اشتدت المعارك، اتصل صديقي وشكرني، وأقسم أنه لن يسمح لي بالتوجه إلى المخيمات إذا ما فكرت بمغادرة المدينة. وبالفعل، توجهت إلى مدينة كربلاء مع أسرتي، واستقبلنا مع أبناء عمومته وعشيرته بالأهازيج وإطلاق الرصاص في الهواء، تعبيراً عن فرحهم بنا وابتهاجهم بقدومنا".

ويروي أن "تلك اللحظات كانت تحمل الكثير من العاطفة والود، وسالت دموع الجميع نساءً ورجالاً. كنا نتسامر ونجلس سوياً ونفكر لو يأتي الطائفيون إلى هنا ويروا كيف نعيش سوياً". يضيف أن "الطائفية مرض انتشر من خلال الأحزاب الدينية والطائفيين. لكنه لا يجد له مكاناً في الجسد العربي العراقي مطلقاً".

في مدينة النجف، يسكن محمد الدليمي ( 49 عاماً) مع أسرته المكوّنة من ثمانية أفراد، والتي نزح إليها من مدينة الفلوجة منتصف العام 2014. يقول الدليمي: "كان أصدقائي في النجف يتصلون بي طوال اليوم ويطلبون مني التوجه إليهم بعدما اشتدت المعارك. رفضوا أن أذهب إلى المخيمات". ويضيف لـ "العربي الجديد": "شعرتُ بالخجل من كرمهم وضيافتهم. لدى وصولنا، أطلقوا الأهازيج الشعبية، ووفّروا لي ولأسرتي بيتاً بعدما رفضوا أن استأجر منزلاً هناك. قالوا أنت ضيفنا فكيف نتركك تستأجر ومنازلنا عامرة؟".