06 نوفمبر 2024
الضبع والذئب
على الرغم من أنه كان رجلاً أُمّياً بسيطاً، إلا أنني كنت أميل إلى تصديقه، لسببين: أنه جدي الذي من الطبيعي أن يعرف أكثر، فخبرة الأيام مرسومةٌ خطوطها على وجهه. وأنه كان فلاحاً يحب أرضه، على الرغم من صغر مساحتها، مقارنة بغيره من ملاك الأراضي قبل النكبة والنزوح إلى غزة. ولذلك، كان يتحدّث عن مغامراته مع كائنٍ يراه أسطورياً، ولم أرَ تلك المغامرات إلا مناماتٍ قد زارت جدي، بعد عشاء دسم أعدّته جدتي.
كان جدّي يتحدث عن حيوان "الضبع"، وهو العدو الأول للفلاحين، لأنه يُغير على حيواناتهم وطيورهم ويهاجمها، كما أنه يعتدي على الإنسان فيقتله، خصوصا النوع المخطط من الضباع، وقد ربط الفلاح الفلسطيني بين الضبع والفساد، لأنه يعيث خراباً أينما حلّ، ومتى انتهى من التهام الجيفة وبقايا العظام، يكتسح الحظائر، وينهش صغار الحيوانات والطيور، وأحياناً يهاجم الإنسان النائم في البراري، فيحفر تحت رأسه، حتى يتحكّم فيه، فينهش حلقه ويشرب من دمه، كما أنه يتلذّذ بمهاجمة الأطفال الصغار، فيقتلهم ويلتهم لحمهم.
وقد حيكت القصص والحكايات حول حيوان الضبع، وضربت به الأمثال، إشارة إلى قوائمه الطويلة، وفكّه وأضراسه القوية، كما أن رقبته قصيرة وظهره محدب، إضافة إلى عرجٍ يخيل للناظر في مشيته، كما أنه يمتلك لبدة سميكة، يرفعها إلى الأعلى، في حال استشعر الخطر، ليبدو أكبر من حجمه، فيهابه من يراه من الحيوانات الأخرى، أو حتى الإنسان، فلم يكتفِ الفلاحون الفلسطينيون بما رواه الأجداد والجدات للصغار عنه، بل إنهم قد تحدّثوا عنه بخوفٍ وريبةٍ في مجالس الكبار، ورويت عنه المغامرات. وارتبطت بطولة الفلاح الفلسطيني، وحتى تأهّله للزواج بأنه قد تغلب على ضبعٍ في طريقه ذات يوم، وقد تحدّث جدّي عن قصة لحيته التي طاولها الشيب مبكراً، فلم تكن بها شعرة سوداء، مقارنةً بمن هم في مثل سنه، وأرجع ذلك إلى أن ضبعاً هاجمه، وهو يركب حماره في طريقه إلى مدينة المجدل، فشعر بالخوف، وابيضّت لحيته في اللحظة نفسها، لكن علبة الثقاب التي لا تفارقه هي التي أنقذته من براثن الضبع، فقد كان جدّي يعتقد، مثل الآخرين، أن الضبع يخاف من النار. وهكذا، استخدم جدّي علبة الثقاب، يشعل عوداً منها كلما اقترب منه الضبع، وهو يركض أعرج خلف حماره، وظل على هذا المنوال، حتى لاحت أضواء المدينة، ففرّ الضبع بعيداً، لأنه يخشى العمران، ولا يظهر إلا في الخرائب والأماكن الخالية.
ومن حكايات الفلاح الفلسطيني الأصيل الطيب الذي أحب أرضه وعشق ترابها، ومن رغبته في حماية ممتلكاته من الضباع، فقد عمد إلى إقامة البيوت، ذات الأسوار العالية، لكن إسرائيل، بوصفها دولة احتلال، بدأت تقوم بالدور الذي تقوم به الضباع، فهي تزحف على الأراضي المحيطة بمستوطناتها، وتضمّها إلى أراضيها، عبر تدبير المكائد وتزوير الوثائق، فأصبح لها جنودها الذين يقومون بأعمال السمسرة، من أجل إتمام هذه الصفقات، حيث تستغل إسرائيل تهالك البيت الفلسطيني من الداخل، وحالة الفقر التي أوصلت إليها أصحاب الأراضي، إلى درجة أن يتحوّلوا إلى أجيرين، بعد أن كانوا ملاكاً لأراضيهم.
مات جدّي، وهو ينادي "الذئب الذئب"، فهو يعرف أن الضبع لا يخاف إلا من الذئب. ولذلك، شاع اختيار اسم "ذيب" لأبناء الفلاحين، تيمّناً بهذا الحيوان المنقذ لهم من الضباع، وكان الفلاح الفلسطيني يصيح بالضبع، حين يهاجمه بقوله: يا أبو الفطايس، بمعنى أن الفلاح كائن حي، تنبض بعروقه الدماء الفلسطينية الحارّة القوية، وبأن الضبع لا يهاجم سوى الجيف والموتى، فالفطيس، في اللهجة الفلسطينية الدارجة، هو كل كائن أُلقي جثةً في العراء، وباتت تنهشه الوحوش الكاسرة. وعلى ذلك، كان الفلاح البسيط يؤكد لنفسه بأنه أقوى من الضبع، حين يصيح به يا أبو الفطايس، وهو يعرف أن الحيوان لا يفهم لغة البشر، وإسرائيل لا تعرف سوى لغة القوة المتخيّلة، كما يفعل الضبع، مستغلاً الظلام وغياب "الذيب".
وقد حيكت القصص والحكايات حول حيوان الضبع، وضربت به الأمثال، إشارة إلى قوائمه الطويلة، وفكّه وأضراسه القوية، كما أن رقبته قصيرة وظهره محدب، إضافة إلى عرجٍ يخيل للناظر في مشيته، كما أنه يمتلك لبدة سميكة، يرفعها إلى الأعلى، في حال استشعر الخطر، ليبدو أكبر من حجمه، فيهابه من يراه من الحيوانات الأخرى، أو حتى الإنسان، فلم يكتفِ الفلاحون الفلسطينيون بما رواه الأجداد والجدات للصغار عنه، بل إنهم قد تحدّثوا عنه بخوفٍ وريبةٍ في مجالس الكبار، ورويت عنه المغامرات. وارتبطت بطولة الفلاح الفلسطيني، وحتى تأهّله للزواج بأنه قد تغلب على ضبعٍ في طريقه ذات يوم، وقد تحدّث جدّي عن قصة لحيته التي طاولها الشيب مبكراً، فلم تكن بها شعرة سوداء، مقارنةً بمن هم في مثل سنه، وأرجع ذلك إلى أن ضبعاً هاجمه، وهو يركب حماره في طريقه إلى مدينة المجدل، فشعر بالخوف، وابيضّت لحيته في اللحظة نفسها، لكن علبة الثقاب التي لا تفارقه هي التي أنقذته من براثن الضبع، فقد كان جدّي يعتقد، مثل الآخرين، أن الضبع يخاف من النار. وهكذا، استخدم جدّي علبة الثقاب، يشعل عوداً منها كلما اقترب منه الضبع، وهو يركض أعرج خلف حماره، وظل على هذا المنوال، حتى لاحت أضواء المدينة، ففرّ الضبع بعيداً، لأنه يخشى العمران، ولا يظهر إلا في الخرائب والأماكن الخالية.
ومن حكايات الفلاح الفلسطيني الأصيل الطيب الذي أحب أرضه وعشق ترابها، ومن رغبته في حماية ممتلكاته من الضباع، فقد عمد إلى إقامة البيوت، ذات الأسوار العالية، لكن إسرائيل، بوصفها دولة احتلال، بدأت تقوم بالدور الذي تقوم به الضباع، فهي تزحف على الأراضي المحيطة بمستوطناتها، وتضمّها إلى أراضيها، عبر تدبير المكائد وتزوير الوثائق، فأصبح لها جنودها الذين يقومون بأعمال السمسرة، من أجل إتمام هذه الصفقات، حيث تستغل إسرائيل تهالك البيت الفلسطيني من الداخل، وحالة الفقر التي أوصلت إليها أصحاب الأراضي، إلى درجة أن يتحوّلوا إلى أجيرين، بعد أن كانوا ملاكاً لأراضيهم.
مات جدّي، وهو ينادي "الذئب الذئب"، فهو يعرف أن الضبع لا يخاف إلا من الذئب. ولذلك، شاع اختيار اسم "ذيب" لأبناء الفلاحين، تيمّناً بهذا الحيوان المنقذ لهم من الضباع، وكان الفلاح الفلسطيني يصيح بالضبع، حين يهاجمه بقوله: يا أبو الفطايس، بمعنى أن الفلاح كائن حي، تنبض بعروقه الدماء الفلسطينية الحارّة القوية، وبأن الضبع لا يهاجم سوى الجيف والموتى، فالفطيس، في اللهجة الفلسطينية الدارجة، هو كل كائن أُلقي جثةً في العراء، وباتت تنهشه الوحوش الكاسرة. وعلى ذلك، كان الفلاح البسيط يؤكد لنفسه بأنه أقوى من الضبع، حين يصيح به يا أبو الفطايس، وهو يعرف أن الحيوان لا يفهم لغة البشر، وإسرائيل لا تعرف سوى لغة القوة المتخيّلة، كما يفعل الضبع، مستغلاً الظلام وغياب "الذيب".