كانت الأيام الخمسة السابقة على قيام صباح 23 يوليو/تموز 1952 أياماً لا تُنسى. يوم 18 يوليو/تموز التقيت مصادفةً بالبكباشي جمال عبد الناصر، والصاغ عبد الحكيم عامر، ودار بيننا نقاش ساخن حول ما يجري في البلاد ودور الجيش فيه، وتحمّست أثناء المناقشة وقلت لجمال عبد الناصر ما معناه "إن الجيش عاجز عن ردّ كرامته إزاء عدوان الملك عليه"، ورد جمال عبد الناصر بالتساؤل عمّا يمكن أن يفعله الجيش.
أوليست أية حركة من جانبه يمكن أن تؤدّي إلى تدخّل بريطاني يعيد فيه الملك فاروق تمثيل دور الخديوي توفيق، ويعود فيه الجيش إلى مأساة عرابي؟ وتطوّعت فقلت إن الإنجليز لن يتدخّلوا لأنّهم لا يملكون وسائل التدخّل، وأحسست أن عبارتي رنّت جرساً في رأس جمال عبد الناصر، لأنه التفت إليّ وسألني عن الأسباب التي تدعوني إلى القول بذلك... كيف أستطيع أن أقطع على هذا النحو بأن الإنجليز لن يتدخّلوا، ورحت أشرح وجهة نظري.
إذا أرادو التدخّل ضد أي حدث يجري في القاهرة فليس أمامهم غير احتلال مصر كلّها، وهم لا يملكون القوّات الكافية لذلك، فمعلوماتي أن كل ما لديهم في منطقة القناة هو فرقة واحدة، وهي على وجه القطع لن تستطيع احتلال مصر.
ثم إن ونستون تشرشل عاد إلى الحكم في بريطانيا بعد وزارة للعمّال رأسها آتلي، وهو يُدرك أن الرأي العام البريطاني يريد سلماً ولا يريد حرباً، وهو - أي تشرشل - موضع شك باستمرار كداعية حرب، وذلك يفرض قيوداً على حركته في هذه الظروف.
ثم إن المناخ الإقليمي في المنطقة لا يسمح لبريطانيا - وهي تواجه مشكلة في إيران بسبب تأميم البترول - أن تخوض معركة مسلّحة في مصر، فذلك قد يؤدّي بالمنطقة كلها إلى انفجار لا تُحمد عواقبه.
ثم إنني كنت في عشاء قبل أيام في بيت اللواء أحمد شوقي عبد الرحمن - قائد المنطقة الشرقية - وكان بين الحضور البريغادير غولبرن - الملحق العسكري البريطاني - ومنه عرفت أن السفير البريطاني - السير رالف ستيفنسون - في إجازة، وكذلك قائد القوات في منطقة القناة، بل إنه هو نفسه يستعدّ للسفر إلى لندن، ومعنى ذلك أن شبكة الاتصالات بين لندن والقاهرة ليست مفتوحة تماماً عند القمة.
وبدأ جمال عبد الناصر يسألني بإلحاح في تفاصيل ما قلت. وشعرت أن اهتمامه به أكبر مما يحتمله حديث عابر بين صحافي وبين ضابط في الجيش.
(وأعتقد أنه كان قد حزم أمره ورتّب خطته لما ينوي عمله، وراح يدير في رأسه كل المحتملات، وإذا بصحافي من وسط المصادفات يثير أمامه علناً كل ما كان يدور في أعماق تفكيره).
وسألني هل نستطيع أن نواصل الحديث لأن الموضوع يهمّه، واقترحت عليه أن نذهب إلى مكتبي في "أخبار اليوم"، وكان تعليقه على الفور: لا.. ليس في "أخبار اليوم".. لماذا لا نذهب إلى بيتك؟
وذهبنا إلى بيتي.. وتحدّثنا طويلاً.. واتفقنا على اللقاء مرّة أخرى.
(من فصل "الثورة وبعدها" في كتاب "بين الصحافة والسياسة". شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، الطبعة السادسة 1985، بيروت)
اقرأ أيضاً: هيكل.. رحيل مؤسسة