عبر مئتين وثلاثين صفحة، يتتبَّع الروائي السوداني منصور الصُّويِّم، في روايته الجديدة "أشباح فرنساوي" (دار العين، القاهرة 2014) سيرة التشادي القتيل "عوض فرنساوي"، التي هي سيرة الإنسان في تجلياته الغريبة والوحشيَّة، كما أنها سيرة للفساد، والفقر، والقهر، وفشل النُّخَب، وسوء استخدام السلطة، وتفكُّك الدولة.
يسلِّط الكاتب الضوء على مصائر قاحلة لأبطالٍ ملحميين يتحركون في فضاءات زمنية ومكانية متعددة، تمتد من "نيالا" ثانية أكبر مدن إقليم دارفور المضطرب في هامش الذاكرة وهامش الجغرافيا القديمة للسودان في ثمانينيات القرن المنصرم؛ وحتى أرصفة قلب العاصمة الخرطوم الرابضة في وحل نفاق التسعينيات وبداية عقد الألفية الأول، والمغطاة بأقنعة كثيفة برّاقة تخفي مآزق النخبة السائرة نحو ذروتها الكارثيَّة المنتظرة، مروراً بالضواحي القصيَّة للعاصمة، ذات الحضور الإنساني الساطع رغم الفقر الطاحن المعتاد فيها.
تمثِّل الرواية حلقة أخرى في سلسلة الروائي منصور الصُّويِّم، التي بدأها بأولى رواياته "تخوم الرماد" 2001، ثم تابعها في "ذاكرة شرير" الفائزة بجائزة الطيب صالح للإبداع الروائي عام 2005 ، وأخيراً "أشباح فرنساوي" 2014، علماً أن روايته "آخر السلاطين" ستصدر خلال أشهر.
في "أشباح فرنساوي"، يصحب "محمد لطيف" -المصحِّح اللغوي والروائي والمثقف- القارئ في رحلة سردٍ مركَّبة من عدة أصوات، يجمع بها الصويِّم قطع المأساة المتناثرة في سياقات حيوات شخوصه بتعقيداتها وتشابكاتها مع البنى الأسطورية متعددة المستويات، والمشتبكة بأحداث غنيَّة بالتفاصيل، سواء أكانت تحملها ذاكرة "الرقيب بشير" وينقّب عنها "محمد لطيف" مشكِّلاً إياها كما يريدها لا كما سمعها؛ أو تلك التي تأتينا بصوت الراوي العليم، الذي نكتشف في نهاية الرواية تداخله وتماهيه مع صوت "ميناس" حبيبة "محمد لطيف" ووارثة مشروعه الروائي غير المكتمل.
وكعادة الصويّم، يحتشد السرد في "أشباح فرنساوي" بالحكايات التي تستند إلى مفارقات صارخة، وعبثيّة ساطعة، صانعةً سياقاً يقود مسارات الأحداث كلها إلى نهايات حلقيَّة أشبه بدوَّامات صغيرة تجذب الشخوص ببساطة إلى حتميات تفاجئنا ببداهتها الكئيبة.
فبمتابعة العلاقة المعقدة التي نشأت بين "الرقيب بشير" و"عوض فرنساوي" كما يتخيلها "محمد لطيف" أو كما حدثت بالفعل في احتمالاتها الأخرى، وبالنظر إلى جدل هذه العلاقة مع علاقات أخرى تصنع الفضاء الافتراضي لقسم شرطة حي "تكساس جنوب" في مدينة "نيالا"؛ علاقات مثل تلك التي ربطت سيادة العقيد "مدثر الجاك" بـ"عوض فرنساوي" أو ربطت هذا الأخير بالملازم "ياسر" وبقية أفراد قسم شرطة "تكساس جنوب"؛ من خلال متابعة كل هذه العلاقات، تمنحنا الرواية سياحة ممتعة في العالم السِّري لمجتمع "نيالا" وغيرها من المدن السودانية في ثمانينيات القرن الماضي، سياحة تعرّي بقوّة الجذور التي أدت في ما بعد إلى الحريق الذي يشهده السودان الآن، حين يضعك السرد أمام حالة اللادولة في أطراف البلاد، التي ظلت تتآكلها منذ ذاك الوقت ببطء زحفاً على حواف الخريطة، متغذيّة ببنى اجتماعية هشَّة وفاسدة، تستمد هشاشتها وفسادها من فساد مؤسسات ونخبة ما بعد الاستقلال وأمراضها المتأصِّلة.
خلال الفصول السبعة عشر للرواية، يروي الصويم قصّة الفشل وموت الأحلام وتحكّم اللاجدوى في مفاصل الحياة؛ يحكي عن الأسطورة، والموت، والجنس، وغربة الإنسان السوداني عن ذاته، واختفاء الحدود الفاصلة بين ما يحدث حقَّاً وما يُحدثه الخيال. يجعلنا ننظر إلى مأساوية التفاصيل ومفارقاتها، بل وطرافتها القاتمة أحياناً، لشخصيات مثل "نادية ريتشي"؛ القوّادة التي قادها حبّها للحياة إلى الموت، و"عفاف" التي تمثل سؤال الوجود بالنسبة إلى الرقيب "بشير"، والشاعرين المنغمسين في اللاشيء، والإشراقتين المتناقضتين المتفقتين، و"جنّون" ضحية العدم وسطحية المفاهيم.. وعشرات الشخصيات الأخرى في بؤس وجودها على هامش المدينة أو على هامش البلاد.
حسناً، هي رواية تتسرّب من شقوق أزمان عدّة، لتضيء بالسرد خلفيات لمآلٍ نعيشه اليوم، لذا يمكننا النظر إليها بوصفها قطعة تأخذ مكانها في أحجية غسق الإنسان السوداني، ومحاق فاعليته وسط كل هذا التفكُّك.