الصفحة 53

09 مارس 2015
لم تحس بأن تلاوة المقطع محاولة شافية (فرانس برس)
+ الخط -

عندما وصلت إلى الصفحة 53 من رواية "شاي أسود" لربيع جابر، لم تستطع أن تكمل القراءة وكأن شيئاً لم يكن. كان لا بدّ من أن تقوم بعمل ما، أية حركة، قبل أن تتمكن من المتابعة. كانت تجلس على كنبة صغيرة مصنوعة من خشب البامبو، في شرفة تطل على البحر. فكرت في الاتصال بإحدى صديقاتها حتى تتلو على مسمعها مقطعاً من الصفحة 53، لكن هاتفها الخلوي كان خالياً من الوحدات. ثم إنها تخاف أن تتلو المقطع عليها فلا يكون له على صديقتها التأثير نفسه عليها. وفي هذه الحالة ربما، قد تتوقف عن حبها لها، وهذه مجازفة لا قدرة لها على خوضها.

تلت المقطع بصوت مرتفع على مسمعها، ومسمع البحر ربما، وجيران في الطوابق السفلى يجلسون أيضاً في الشرفة: (قال لعلاء: "أروع انتحار رصاصة في الرأس ... ترتاح من الصداع إلى الأبد. لا يعود رأسك ثقيلاً، تنام الخفة فوق كتفيك". فرد علاء: "أروع انتحار الانتحار الياباني: بالسيف القاسي تخرج قلبك الطري من بين أضلاعك؛ هذه هي الراحة الحقيقية". قال لعلاء: "هذه خرافة. القلب أيضاً موجود في الرأس").

لكنها لم تحس بأن تلاوة المقطع بصوت مرتفع محاولة شافية. عندها، أمسكت الورقة من زاويتها في الأعلى، ونظرت حولها لتتأكد أنها ما زالت وحدها وأن أحداً لا يراقبها، ثم مزقت الصفحتين 53 و54. لم تعرف ماذا تفعل بالورقة. طوتها بشكل لا يظهر سوى المقطع في وسط الصفحة 53، ودسّت الورقة في جيبها. لكنها لم تتابع القراءة.

***

تفكّر أحيانا أن المدينة موجودة فقط في رأسها. السنوات الماضية أيضاً في رأسها. كل الذين عرفتهم أصبحوا الآن في رأسها. تفكر بمقولة لإبسن، لا تذكر أين قرأتها، "لا نملك فعلياً وأبدياً إلا ما سبق أن خسرناه". تبدو نهاية الأشياء جميلة. يأخذ كل عنصر مكانه في الرأس: المنور الذي في أعلى الحائط، الشراشف النبيذية مع الوسادة الزرقاء. جميع اللواتي شاركنها الغرفة وصباحاتها في تنقلاتها بين بيوت المدينة. المنفضة التي لم تعد تنفض الدخان فيها لكنها ما زالت هنا...

لا أحد يستطيع أن يأخذ منها أياً من هذا. في الباص، تجلس قرب النافذة، تفتحها ثم تفتح رأسها بيديها الإثنتين كصندوق لعب وتخرج منه ما يحلو لها. ثم تبتسم وحدها وتبقى هكذا طوال الطريق. وإذا حالفها الحظ وتمكنت من رؤية صورتها في مرآة الوسط التي في مقدمة الباص، تحدق فيها وتبتسم أكثر. تقول في نفسها: "من الجيّد أنه أصبح بإمكاني أن أبتسم لبعض ما في رأسي من ألعاب ومشاهد صغيرة". أما البعض الآخر، فتفضل ألا تمسه. ما إن يطوف نحو الأعلى حتى تعيد إغلاق رأسها بإحكام، بيديها الإثنتين، وتهرع إلى السرير. تنامُ لتنسى.
دلالات
المساهمون