ترتسم ملامح تغيير كبير على خرائط السيطرة في شمال شرقي حلب، مع تقلّص المساحة الجغرافية بين قوى متصارعة تقترب من مدينة منبج الاستراتيجية، التي تُعدّ الهدف الأبرز لقوات المعارضة السورية المدعومة من تركيا والمنضوية في غرفة عمليات "درع الفرات"، كما أنها محط أنظار قوات النظام السوري التي تتحرك في محيطها، فيما تؤكد مليشيات الوحدات الكردية أنها انتزعت السيطرة عليها لتبقى فيها، وليس لتسلّمها إلى أي طرف.
وبرز يوم أول من أمس الإثنين تطور من شأنه خلط الأوراق في هذه المنطقة "القلقة"، ويؤكد عدم توصل الإدارة الأميركية لتصوّر متكامل عن كيفية مواجهة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في معقله الأبرز مدينة الرقة، ومن بعدها دير الزور، كما يشير إلى عدم اتفاق اللاعبين الكبار في الجغرافيا السورية على استراتيجية مواجهة، وتحديد مناطق النفوذ في منطقة باتت مسرح صراع إرادات مفتوحة.
وأعلنت "قوات سورية الديمقراطية"، التي تشكّل مليشيات الوحدات الكردية عمادها، أنّ مقاتلين يتبعون للتحالف الدولي لمحاربة تنظيم "داعش"، الذي تقوده الولايات المتحدة، انتشروا في محيط مدينة منبج، مع اقتراب قوات "درع الفرات" المدعومة من تركيا منها.
وإذ اعتبر درويش أن "تحرير منبج تم بإسهام ومشاركة فعالة من التحالف"، فقد رأى أن الحديث عن "تسويات برعاية أميركية" لإعطاء منبج، أو معبر من تل أبيض إلى الرقة لقوات "درع الفرات" مجرد "كلام فارغ"، بحسب وصفه، قائلًا: "نحن حررنا منبج، وضحينا لأجل تحريرها، وهي الآن تدار من قبل أبنائها وبحماية أبنائها، وسندافع عن منبج ضد أي تهديد ومن أي جهة كانت، ولا صحة لأي حديث غير ذلك، وكلام كهذا تروّج له تركيا، وهو من خيالها".
وكانت وزارة الدفاع التركية قدّمت للأميركيين منذ أيام خطة لانتزاع الرقة من تنظيم "داعش"، تتضمن مقترحات عدة، منها دخول قوات المعارضة السورية باتجاه الرقة عبر مناطق تسيطر عليها الوحدات الكردية في ريف حلب الشمالي الشرقي، وفي ريف الرقة الشمالي.
وبات من الواضح أن النظام السوري ومليشيات الوحدات الكردية، يدفعان باتجاه إفشال الخطة التركية، من خلال خلق وقائع على الجغرافيا تعرقل الخطة التركية، وتدفع وزارة الدفاع الأميركية لاعتماد خطط بديلة، من قبيل زيادة الدعم لـ"قوات سورية الديمقراطية" للقيام بالمهمة من خلال غرفة عمليات "غضب الفرات"، أو السماح لقوات النظام بالتوغل أكثر في ريف حلب الشرقي لزيادة الضغط على التنظيم، لتسهيل مهمة "سورية الديمقراطية" في عزل الرقة.
ولا تزال منبج في قلب الحسابات التركية، فسيطرة المعارضة المدعومة منها على المدينة الاستراتيجية، بمثابة المسمار الأخير في نعش إقليم انفصالي يعمل حزب "الاتحاد الديمقراطي"، وهو النسخة السورية من حزب "العمال الكردستاني"، على تشكيله في شمال وشمال شرقي سورية، وهو ما تعتبره أنقرة التهديد الأكبر لأمنها القومي. كما أن السيطرة على مدينة منبج يفرض تركيا لاعباً لا يمكن تجاوزه في رسم مستقبل الشمال السوري، الذي بات من الواضح أنه يقع في "الحدود العاطفية" التركية، وأنها لن تتركه عرضة لفوضى المشاريع السياسية.
وجدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمس الثلاثاء، التأكيد على أن قوات المعارضة السورية المدعومة من تركيا، ستتحرك صوب بلدة منبج في شمال سورية، بعد إكمال عمليتها في الباب، مثلما كان مخططاً في الأساس. وكرر الرئيس التركي، مطالبته الوحدات الكردية، بالخروج من مدينة منبج، مستبعدا أي فرصة للتعاون مع "قوات سورية الديمقراطية" التي تضم خليط فصائل تتولى الوحدات الكردية مهمة الاشراف والتوجيه لها.
ورأى المحلل السياسي التركي أوكتاي يلمز أن الوحدات الكردية "استغلت الدعم الأميركي لها، في إطار محاربة تنظيم داعش للسيطرة على مزيد من الأراضي"، مشيراً في حديث مع "العربي الجديد" إلى أن هذه المليشيات كانت عاجزة عن مواجهة التنظيم لولا الدعم الأميركي المباشر. وأكد يلمز أن الإدارة الأميركية السابقة لم تلتزم بعهود قطعتها لأنقرة بخروج الوحدات الكردية من منبج وترك إدارة المدينة لأهلها، موضحاً أن الحكومة التركية "تحاول تسوية وضع المدينة بالطرق السياسية"، مؤكداً وجود اتصالات تركية أميركية على هذا الصعيد.
وأشار يلمز إلى أنه من المنتظر أن تتسلم الحكومة التركية (الثلاثاء) رد الإدارة الأميركية الجديدة على الخطة التركية لانتزاع مدينة الرقة، معرباً عن اعتقاده بأن "قوات سورية الديمقراطية" عاجزة عن استعادة الرقة، وهو ما جعل التحالف الدولي يبحث عن خطط جديدة. وأكد استمرار التعاون التركي الروسي في سورية، مشيراً إلى أن المشهد في الشمال السوري "معقد"، موضحاً أن الوجود التركي مهم كي لا تخرج الأمور عن نطاق السيطرة.
وبات ريف حلب الشمالي الشرقي ميدان صراع معقد بين أربعة لاعبين في الجغرافيا السورية، إذ تتوغل قوات النظام ومليشيات تدعمها في مناطق يسيطر عليها تنظيم "داعش"، وعينها على بحيرة سد الفرات، وباتت على صلة مع مناطق نفوذ "قوات سورية الديمقراطية" عند قرية جب الخفي، ولم تعد تفصلها سوى بضعة كيلومترات عن قوات المعارضة المتحفزة جنوب شرقي مدينة الباب.
ويبدو أن انتشار قوات أميركية في محيط منبج يأتي في سياق حرص وزارة الدفاع الأميركية على تجنب صدام، بين قوات المعارضة السورية، ومليشيات الوحدات الكردية، ربما يتسبب في بعثرة الجهود المبذولة من أجل بلورة خطة عسكرية واضحة تخص استعادة مدينة الرقة.
ولا تخفي المعارضة السورية قلقاً من قيام الوحدات الكردية بتسليم مدينة منبج الاستراتيجية إلى قوات النظام، التي باتت على مسافة نحو عشرين كيلومتراً منها، وهو من شأنه دفع الأمور نحو مزيد من التأزيم.
وفي هذا الصدد، أكد العقيد هيثم عفيسي، وهو قيادي في الفرقة 13 التابعة للجيش السوري الحر والتي تشارك في "درع الفرات"، أن هناك بالفعل خشية من دخول قوات النظام إلى منبج، بتسهيل من الوحدات الكردية، مشيراً في حديث مع "العربي الجديد" إلى أن مناطق تحت سيطرة تنظيم "داعش"، تسلّمها النظام "بسهولة، بينما يستشرس داعش بالقتال معنا". واستبعد عفيسي حدوث صدام عسكري مع الوحدات الكردية، مضيفاً: "ستكون هناك تفاهمات سياسية حول منبج، خصوصاً أن سكانها عرب"، مؤكداً أن مدينة منبج لا تزال هي الهدف الأول بعد السيطرة على مدينة الباب.
وجرى حديث خلال الأيام القليلة الماضية عن نيّة "درع الفرات" الاتجاه غرباً بعد السيطرة على الباب لانتزاع السيطرة على مدينة تل رفعت، ومنّغ ومطارها (شمال حلب بنحو 50 كيلومتراً) من الوحدات الكردية التي سيطرت عليها في فبراير/شباط من العام الماضي بدعم روسي إبان الخلاف بين إنقرة وموسكو.
ولكن أبو حزم أكد لـ"العربي الجديد" أن الأولوية الآن لمدينة منبج، موضحاً أن "مدينة منبج محتلة منذ ثلاث سنوات، وأهلها مشردون"، مشيراً إلى ضرورة انتزاع السيطرة عليها من الوحدات الكردية "لأن ريف منبج الجنوبي الشرقي هو بوابة لتحرير الرقة من تنظيم داعش، وإيقاف حلم حزب الاتحاد الديمقراطي إقامة دويلة كردية في شمال سورية".
وحاولت "قوات سورية الديمقراطية" من خلال تصريحات المتحدث باسمها طلال سلو لوسائل إعلام موالية للنظام، جر الأخير إلى مزيد من التعاون المشترك، من خلال الإيحاء بفائدة اقتصادية تعود على الأخير، جراء وصل مناطق نفوذهما جغرافياً، ليصبح نقل النفط والحبوب من المناطق التي تسيطر عليها الوحدات الكردية إلى مناطق سيطرة النظام أكثر سهولة.
وكانت الصلة الجغرافية قد انقطعت بين مناطق النظام في جنوب ووسط وغرب البلاد، وبين محافظة الحسكة الغنية بالنفط والمحاصيل الزراعية الاستراتيجية، والتي يتشاطر النظام السيطرة عليها مع الوحدات الكردية. والتقاء مناطق نفوذ الطرفين في شمال شرقي حلب، يسهّل وجود طريق بري يمتد من الحسكة إلى حلب، ومنها إلى بقية المناطق الخاضعة للنظام في سورية.