الصحف القومية في مصر: "دولة" في أزمة

21 سبتمبر 2014
مستقبل الصحف القوميّة في مصر مجهول (Getty)
+ الخط -
"الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان محظوظاً مع الإعلام"… جملة قالها الرئيس عبد الفتاح السيسي، دون أن يُدرك كثيرون دلالتها. يُكمّم الأخير أفواه الإعلام، مستقلاً كان أم قومياً. لكنّه يبدو غير راضٍ عن درجة تأييد الصحف له، كأنّما يريد تأييداً كعبد الناصر نفسه.

قرّر عبد الناصر، في الرابع والعشرين من مايو/ أيار 1960، تأميم الصحف المصريّة، وإلغاء فكرة تملّك الأفراد للصحف، في إطار حربه على الرأسمال الخاصّ، ورغبةً منه في حشد الجماهير لمشروع التحوّل إلى الاشتراكيّة في أوائل الستينيات.

لم يُفرّط أيّ ممّن ترأس مصر بعد عبد الناصر في "تركة" الصحف الحكوميّة، أو القوميّة، كما يُطلق عليها. لعبت هذه الصحف دوراً بارزاً في دعم سلطة الحاكم وتشويه صورة الثورات أو الاحتجاجات الشعبيّة. في العام 1977، استخدمت هذه الصحف تعبير "انتفاضة الحراميّة"، الذي استخدمه الرئيس الراحل، أنور السادات، لوصف الاحتجاجات رفضاً لرفع الأسعار.

وفي عهد الرئيس المخلوع، حسني مبارك، استخدمت الصحف تعبير "قتيل البانغو" عند الحديث عن الشهيد خالد سعيد. وبعد ثورة "25 يناير"، تخلّت هذه الصحف عن "خجلها" مع السلطة.

وعنونت صحيفة "الأهرام"، أكبر الصحف المصريّة التابعة للسلطة، مع رحيل مبارك: "الشعب أسقط النظام". لكنّها ما لبثت أن بدأت حملة داعمةً للحكم العسكري، فكتبت عن المجلس العسكري، والانضباط العسكري الذي تحتاجه مصر بعد الثورة، كما هاجمت التظاهرات الشعبيّة.

في كتابه "الثورة التائهة"، يقول أول رئيس تحرير بعد الثورة، عبد العظيم حماد، إنّه نشر خبراً ينتقد أداء المجلس العسكري، فاستدعاه المشير طنطاوي ليعاتبه. فردّ حماد أنّه يقدم خبر الصحف المستقلّة. فقال طنطاوي: لا تهمّني الصحف المستقلة. فردّ حماد: لكني بذلك لن أبيع، فجاوبه المشير: لا تبع، وخذ ما تريد من مال لتعويض الخسارة.

الملكيّة

بعد التأميم، أسندت ملكيّة الصحف إلى هيئة الاتحاد القومي، التي كانت تنفّذ سياسة عبد الناصر. وبعد إطلاق السادات للمنابر والأحزاب وسماحه بإصدار الصحف الخاصة والحزبيّة، أصدر قانوناً لتنظيم الصحافة، وأسند الملكيّة إلى مجلس الشورى، الذي كان يريده السادات نموذجاً لمجلس الشيوخ الأميركي.

وبقي هذا الوضع حتى الثورة، ليعود الحديث عن الملكيّة. ويرى أحد الصحافيين المخضرمين في إحدى الصحف القوميّة، أن هذه الصحف تعاني من أزمة مصطلح، "فلا أحد يعلم ما هو التعريف القانوني لكلمة "قوميّة". ويضيف: "المفروض أنّ هذه الصحف تابعة للشعب المصري، لكنّ الممارسة جعلتها ملكاً للدولة". بعد ذلك، كانت صيغة ملكيّة مجلس الشورى للصحف المصريّة.

ويصف صحافي في إحدى الصحف الناصريّة أنّ "هذه الملكيّة غامضة وغير دقيقة. فمجلس الشورى تعرّض لانتقاد حول أسباب وجوده وطرق انتخابه".

وتنسحب أزمة المصطلح على اعتبار الصحف القوميّة "تعبيراً عن الدولة". ويرى صحافي نقابي متقاعد أنّ ذلك يعني أن تكون "تعبيراً عن كلّ مكونات الدولة من نُظُم حكم وحكومة ومعارضة، لأن هدف الدولة أن تستوعب كلّ التيارات السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة".

لكنّ هذا لا يحدث في الصحف القومية. ويشير صحافي انتقل من صحيفة قومية إلى أخرى مستقلة، إلى أن "هذه الصحف هي تعبير عن علاقة غامضة بين رأس المال والسلطة".

النظام مصدر وحيد للخبر

يقول أحد الصحافيين الشباب، إنّ "الصحافة، وبضاعتها الأساسيّة ـ الأخبار ـ لا يُمكن أن تكون تجارة الدولة". ويضيف: "الدولة لا تملك سوى جانب واحد من الخبر. أما الخبر المهني، فمتعدّد الأوجه، وهذا ما لا يحدث في الصحف القوميّة". ويشير إلى أنّ ذلك يعود إلى أنّ "مصدر الخبر الوحيد هو النظام الحاكم نفسه"، مضيفاً: "حتى أخبار الحوادث في الصحف القومية تعتمد على أوراق الشرطة فقط".


أزمة التمويل

يردّد صحافيون في "الأهرام"، أنّ اجتماعاً ضمّ رؤساء الصحف القوميّة مع مسؤولين حكوميين آخر أيام مبارك، لبحث مشكلة مديونية الدولة، وعندما طالب مسؤولو الحكومة بتحصيل الديون، ردّ عليه أحد رؤساء التحرير بالقول: "نحن ننافقكم في كل سطر، ولذلك ينصرف القارئ عنّا. لو كتبنا الحقيقة لبيعت الصحف وما احتجنا لدعم الحكومة".

بعد الثورة، أصيبت الصحف القومية بأزمة التمويل. وبينما كانت الصحف القومية تحظى بفائدة التزاوج السياسي مع رأس المال المصري ممثلاً في الإعلانات، افتقدت الصحف لهذا المصدر الأساسي في تمويلها. فقد أصبح معظم رجال الأعمال المنتمين إلى نظام مبارك في السجون، أو هاربين، أو فكروا في صيغة أخرى للترويج لمشروعاتهم ومصالحهم بإصدار صحف وتأسيس قنوات فضائية خاصة.

أزمة التمويل التي تواجهها الصحف القومية، لها بعد آخر في رأي صحافية ناشطة في مجال الدفاع عن الحريات. وتقول الناشطة إنّ "هذه الأزمة جعلت الرواتب في الصحف القومية تتأخر، وهذا ربما يحدث لأول مرة".

وتضيف: "اختفت الإعلانات من الصحف في السنوات الثلاث الأخيرة بسبب الثورة وما تلاها من سجنٍ لمعظم رجال الأعمال، كإمبراطور الحديد أحمد عز، الذي كان مموّلاً سخيّاً للصحافة القومية بالإعلانات، وغيره". 

وتتابع: "مَن لم يتعرّض للسجن من رجال الأعمال، كنجيب ساويرس ومحمد أبو العينين، مثلاً، وجد أنّ إصدار صحفٍ خاصة به وقنوات فضائية أوفر بكثير من  نشر إعلانات عن نشاطه الاقتصادي في الصحف القوميّة... كما أن إنشاء قنوات وإصدار صحف لا يجعلهم مجرد رجال أعمال، بل يدفعهم إلى مصاف أصحاب القرار، فيؤثرون في مجرى الأحداث السياسية".

وترى الناشطة أنّ إحجام الناس عن شراء الصحف القومية ضمن حالة إحجام عامة عن قراءة الصحف، تؤدي إلى أزمة مالية في الصحف القومية، لأن المعلن لا يجد حافزاً لنشر إعلانه في صحيفة تتراجع في توزيعها من مليون نسخة، كـ"أخبار اليوم" و"الأهرام"، إلى نحو 240 ألف نسخة فقط في الوقت الراهن، حسب تقديرات يصفها البعض بالمتفائلة، بعدما وصل الأمر إلى أقل من خمسين ألف نسخة مع أيام الثورة الأولى. 

وتلعب الدولة، ممثلة في وزارة المالية، دوراً مهماً في تمويل الصحافيين أنفسهم بشكل مباشر. فاختراع فكرة بدل التكنولوجيا الذي تصرفه الدولة للصحافيين من خلال نقابتهم، يراه البعض رشوة سياسية مقنّعة، ويراه البعض كما لو كان بدل ضمان اجتماعي للصحافيين. فبعض الصحف المستقلة والخاصة تمنح رواتب هزيلة وغير منتظمة للصحافيين، ما يجعل من الدعم الحكومي، المتمثّل في بدل التكنولوجيا، مصدر الدخل الحقيقي لهم.


غياب الرأي الآخر
يرى أحد الصحافيين في "الوفد"، أنّ "الأزمة في الصحف القومية أنها، على المستوى السياسي، أصبحت أسوأ في تعاملها ممّا كانت عليه في السنوات الأولى من عهد مبارك". ويقول: "صفحة الرأي في جريدة الأهرام في عهد مبارك، كانت حريصة على أن تنشر آراءً معارضة لنظام الحكم. فقد كان يكتب في تلك الصفحات، على سبيل المثال، محمد سيد أحمد ولطفي الخولي وفهمي هويدي، القريب من فكر "الإخوان"، إلى جانب مؤيدي النظام، كمكرم محمد أحمد".
يتّفق مع هذا الرأي صحافي في "الأهرام" نفسها، ويضيف: "كانت صفحات الرأي، أو المشروع الصحافي للأهرام بشكل عام، يستوعب كل الطيف السياسي من الناصريين، للقوميين العرب، للاشتراكيين والإسلاميين. أما الآن، فلم يعد يكتب في صفحات الرأي في الأهرام إلا مَن يؤيد مشروع النظام الحالي ورئيسه ومَن إلى جانبه من النخبة الحاكمة. فبينما يسمح لأحد كتّاب التيار السلفي من حزب النور بالكتابة، لا يسمح لأحد من القريبين من الإخوان، ولا لأحد من اليسار الرافض لمشروع السيسي، بالكتابة".

ويتابع: "لعلّ أزمة منع مقالات المفكر المرموق نادر فرجاني مثال دال، وتعبير عن أزمة الأهرام، والتي هي أكبر من مجرد منع مقال، هي منع أي صوت معارض للنظام السياسي". 
ويقول الصحافي: "تحولت الأهرام، ومعها أخبار اليوم والجمهورية، إلى نشرات تكاد تصدر من إدارة الشؤون المعنوية التي تسيطر عملياً على المشهد الصحافي في مصر".

ولكن ما هو مصير هذه الصحف؟ يرى أحد الصحافيين في مؤسسة "الهلال" أنّ المستقبل أمام الصحف القوميّة شديد التعقيد، ويقول: "ربّما تتوقف بعض الصحف الضعيفة". ويضيف: "مؤسسة كالهلال، مثلاً، وهي تصدر مجلة أسبوعية ومجلة ثقافية شهرية، تعاني من أزمة تمويل تكاد تجعلها على حافة الإفلاس. كذلك تعاني جريدة "الجمهورية" من أزمة تمويل، ولولا تدخل الدولة بتسهيل قروض ومنح، لتوقفت منذ فترة عن الصدور". ويتابع: "إذا كانت المؤسسة الكبرى، وهي الأهرام، تعاني أزمة مالية شديدة جعلت البعض يفكر في بيع بعض الأصول المملوكة لها، فإن الأزمة في باقي الصحف القومية أشد وأقسى".
المساهمون