الصحافي الذبيح

02 ابريل 2015
+ الخط -

تستمر الحكمة الخالدة بالتكرار، في العالم عموماً، وسورية خصوصاً، عقب رفع وتيرة الطائفية، الكراهية، العنف، الاضطهاد والتصفية الجسدية للمواطنين السوريين عبر النظام السوري، وأقرانه من التنظيمات التي جعلت من نفسها وصية على الشعب السوري، وتؤكد هذه الحكمة أن الجاهل يفعل بنفسه ما لا يفعله به أكثر أعدائه كراهية له.

يقال إن أعداء الصحافة هم أعداء الحرية والشفافية، وأعداء للسلطة المدنية المتمثلة بالقلم والمعرفة والتنوير. ويقال أيضاً إن الصحافة هي التي تسير المزاج العالمي، والمحلي، على حد سواء، وعلى كل الحركات التحررية في العالم، أن تنال لصفها، أقلاماً صحافية، تنير دربها، وتعبّد طريقها، لتلقى الرواج والفهم والمصداقية عبر العالم. أما النظام البربري السوري فكانت له الريادة في كتم صوت الصحافة والإعلام قبل الثورة السورية وما بعدها، وجاء بعده تنظيم داعش الإرهابي، ليجعل نفسه في حالة عداء مع المشتغلين المحترفين في صنعة الإعلام وحتى الهواة أو المتطفلين عليها، فاستعدى وقتل الصحافيين، واستهدف حياتهم بشكل مباشر، سواء كانوا من السوريين، أو من الأجانب، في حركة تتطابق مع النظام السوري البربري المجرم.

تعرفت على الصحافي الياباني، صاحب القلب الأبيض، كنجي، عبر صديق مشترك مناصر وبشدة للثورة السورية، ويعلم تماماً أن الإعلام المهلهل في الثورة لن يوصل الصورة للخارج لأسباب مختلفة ومختلطة. عندما تم اللقاء الأول مع ذاك الصحافي في الأراضي التركية، غمرني للوهلة الأولى شعور أن السيد الصحافي لن يغامر بنفسه ليدخل حلب، المدينة التي تم عدها المدينة الأخطر في العالم، وسألته سؤالاً مباشراً: ماذا عساك ستفعل للمدينة المنكوبة؟ فكانت إجابته واضحة لا متصنعة ولا متبجحة، أنه لا يملك أكثر من نقل صورة معاناة المدنيين السوريين، للعالم في الطرف الآخر، حيث الكل إما منهمك في مشاكله الداخلية أو الإقليمية، أو أنه يعمل حسب الأيديولوجيا التي تستحوذ على ما يناسب مالكي المؤسسات الإعلامية، التي يعمل لديها وما يتوافق مع مصالحهم، أو متشاغل عما يحدث في هذه البقعة الساخنة ،من ثورات، ربما ستغير وجه العالم. ولكنه فعل!

في الحوار الأول الذي دار بيننا في مقهى تركي في جلسة تقليدية مريحة، وبدون رسميات، بدت عليه العفوية والصدق. طيبة القلب، كانت سمة أساسية في عمله، كباعث إنساني على خوض معركة نقل الحقيقة من عين التناقضات، في المناطق التي تخلصت من سيطرة النظام البربري السوري المجرم. أراد كنجي الشهيد أن يكون صوتاً للسوريين الذين لا يملكون أصواتاً، فكان صدى كاميرته ودفتر يومياته، يصل للشارع الياباني، ليعلم كمية وحجم المعاناة التي يعاني منها السوريون المدنيون في المناطق "المحررة" التي تضج بالحيوية والفوضى، لا سيما أنه تقاسم معهم الانقطاع الطويل لكثير من أساسيات الحياة من مياه وكهرباء وتشارك معهم حالة الهلع والرعب، التي تطغى عقب كل غارة جوية من طائرة حربية أو إثر إلقاء برميل من سماء باتت تلقي على السوريين البارود والنار.

أطلق كنجي، بمساعدة صديقه السوري، برنامجاً تدريبياً ليستفيد منه النشطاء الإعلاميون، في الداخل السوري، ويؤكد بعض ممن حضروا الدورة، على تقييم تلك الدورة بالإيجاب والنفع، لأنها كسرت المفهوم الشائع عن أن الدورات الإعلامية التي تحدث خارج الأراض السورية، في تركيا أو لبنان، هي الدورات الاحترافية الأفضل.

دافع كنجي عن صوت الأطفال، الذين دخلوا العام الرابع على التوالي وهم بعيدون عن مدارسهم وعن صحبة دفاترهم وكتبهم وأقلامهم، فحاول أن يوصل بعض المميزين منهم ليحصلوا على منحة دراسية في اليابان وكان يستمر في الإرسال كلما شاهد طفلاً مميزاً ليحصل على فرصة بالتعليم في زمن الطفولة المقهورة في سورية.

إن كان هناك من صورة ينبغي رسمها لكنجي الذبيح فهي مع طفل يضحك وأعتقد شخصياً، أنه الآن يضج بالضحك في السماء مع أطفال سوريين، عانوا ما فيه الكفاية من قسوة العالم، المتنكر لحقوقهم، وأساسيات منعهم من الوقوع ضحايا النزاعات التي يعيشها عالمنا المتوحش.

عاش كنجي أسابيع عديدة في مدينة حلب، وزار معظم المنشآت المدنية فيها، وحاول أن ينقل للآخرين صورة العمل المدني في تلك البقعة الخطرة، وكان أن زار المجلس المحلي لمدينة حلب، واستطلع وباستفاضة كيفية عمله وآلية انتقاء أفراده، وتساءل عن الدعم المبذول المطلوب ليأخذ المجلس حقه كواجهة مدنية مثلى، في وجه عسكرة الثورة السورية، الذي طغى على أخبار الثورة في العالم، ليقول للآخرين أن هناك فرقاً مدنية تعمل على خدمة المدنيين وصلت عبر صناديق الاقتراع، وتعبر بشكل لا بأس فيه عن صوت الشارع، حسب الإمكانيات المتواضعة المتوافرة بين أيديها.

حاول الصحافي الذبيح كل جهده أن يقوم بربط المجلس المحلي بالسفارة اليابانية في أنقرة، ونقل إليها طلبات الدعم المدني المطلوب للمدينة المنكوبة، وكان أن ترافق وجوده في المدينة، مع حملة براميل متفجرة، أسقطت على المدينة من الطائرات المروحية، التي يمتلكها الطيران البربري للنظام السوري المجرم، وكان متفاجئاً للغاية لسببين، أولهما كيف لنظام أن يقتل شعبه بمثل هذه القسوة والهمجية، والثاني عن كيفية ترك مثل هذا الإجرام مستمراً بالتحليق في السماء، ليقتل ويهجر السكان المحليين، ويضيف عبئاً ثقيلاً، في تحمل أعباء التهجير القسري، لمئات الألوف، كانت تضج بهم المدينة، قبل استهدافها العشوائي المسعور بالبراميل المتفجرة، من طائرات النظام المجرم.

تم إيقاف كنجي مرتين من قبل الهيئة الشرعية بحلب، ومن ثم تم إطلاق سراحه، بعد تأكدها من سلامة نيته، وحرصه على نقل حقيقة ما يجري من إجرام النظام الأسدي، بحق المواطنين السوريين، وما يعقب ذلك من تدمير ممنهج للبنى التحتية والمدارس والمشافي وباقي المرافق العامة، كي تكون الحياة صعبة بل ومستحيلة العيش على المواطنين، فينتفي وجود حواضن للثورة السورية في تلك المناطق، حسب التفكير الذميم للنظام السوري، بل إنه أصبح صديقاً لبعض الموجودين فيها أيضاً.

ذهب كنجي طواعية للمناطق التي تسيطر عليها قوات داعش، في ولاية الرقة. قيل إنه تم اختطافه لهناك، والأقرب هو أن كنجي بطيبة قلبه ورغم تحذيرات أصدقائه، اعتقد أن الدواعش يمتلكون من الطيبة والترحاب ما وجده في قلوب الثوار في المناطق التي تخلصت من سيطرة عصابة الأسد. اعتقد أن التعامل معهم سيتم بناء على ما سيقدمه من خدمات، من نشر وكشف للحقائق، تدين عصابة الأسد، وبدون غايات أخرى، تتخطى مقدرته الفردية على العطاء، وإذ به يتهم بالتجسس لصالح النظام العالمي الإمبريالي ويصبح بعدها رهينة لمفاوضات، تديرها المصالح الضيقة للتنظيم، للحصول على بعض الأموال أو الأسرى، عبر مبادلته مع سجناء، مدانين بتهم للإرهاب، لدى النظام الأردني.

وسرعان ما تلاحقت الأحداث، بين أخذ ورد، لنسمع الخبر الفاجعة، عن صديق مرّ بأرض الثوار، وأراد أن يكون لهم عوناً على إيقاف معاناة السوريين، ويتخطى بذاكرته ما حلّ بدولته الأم اليابان، ما لحق بها من معاناة وضيق وألم، بعد خسارتها مئات الألوف من مواطنيها بعد خسارة الحرب مع الأميركيين، في أواسط القرن العشرين المنصرم، فقام تنظيم داعش بذبح الصحافي كنجي، بعد فشل مفاوضات لإطلاق سراحه، تمت على أعلى المستويات من قبل دولة اليابان ووسطاء لدى داعش، وقد تم سابقاً ذبح قرينه الياباني في مشهد بشع، تم إجباره فيه على حمل صورة رأس زميله الياباني الآخر، في رسالة لدفع فدية أو إطلاق سراح معتقلين آخرين مقابل إطلاق سراحه.

لا أتخيل أن مقطع قتل الصحافي الياباني أدخل سروراً على قلب أحد كما فعل لدى عصابة الأسد المجرم. ولا أستطيع أن أتخيل مقدار الغباء والإجرام الذي يتملك من قام بقتله، حيث ترك الفرصة لبقية العالم أن ينصرفوا عن الجريمة الكبرى، التي تحدث في الأرض السورية، لتصبح قضية جريمة قتل الصحافي الصديق، الشغل الشاغل لكل وسائط الإعلام الصديقة للشعب السوري، والمناصرة للنظام السوري، على حد سواء، وليفعل التنظيم الدموي ما فعل من تلطيخ للثورة السورية، على أنها ثورة دموية، تحتوي على إرهابيين قتلة مجرمين، تستأهل من العالم إعادة النظر بالانفلات الذي سيحصل لو استمرت بدعم تغيير نظام الأسد المجرم، وما سيليه من نكبات في المنطقة، وهو أمر أجزم أن صديقي الذبيح سينكره ويكرهه وهو في السماء حيث يليق به أن يبقى مع ضحكات الأطفال وأوجاعهم، التي غادرت هذا العالم القميء حيث المصالح تتفوق على القيم والشعارات النبيلة.

أود أن أوجه لعائلة الصحافي الذبيح، أمه وزوجته على وجه الخصوص، كلمات: أتمنى أن تدركوا جيداً أن دماء كنجي ذهبت في سبيل الشرف الصحافي، في تبيان ونقل الحقيقة، وأنه سيستمر في هذا المضمار، الكثير من الصحافيين الشرفاء، ليحملوا ويحموا القضايا العادلة بأقلامهم وأحلامهم، عن عالم ينبغي أن تسوده العدالة والكرامة والحريات، وهو أمر يقدره كثيراً السوريون الأحرار، الذين ستبقى طويلاً في أذهانهم بسمة كنجي الوادعة، وإنسانيته القوية، وربما سيعلّمون أطفالهم، أنه في يوم من الأيام، مرّ من هنا إنسان شجاع صاحب قلم حر، في زمن تخلت فيه الإنسانية عن الاستمرار، وبذل دمه لقاء ثقته بعدالة القضية التي كتب عنها ونقلها، ولكنها لن تذهب هباء.

أقول للشامتين بدماء كنجي: لعنكم الله، ولعنة الأحرار من الثوار، وعليكم لعنة التاريخ، الذي سيذهب بأمثالكم للفناء بينما سيبقى كنجي خلية تتشاطر وتتكاثر، لفضح أمثالكم، لعنة لا تبارح مخيلتكم، ليل نهار، يا عبيد الطغاة والقتلة المجرمين.

للذين تأثروا بدماء كنجي وأمثاله: لا تجعلوا من مقتله سبباً للكراهية أو انحساراً عن متابعة القضي،ة التي مات في سبيلها، بل لتكن دماء كنجي، أثراً يُقتفى، وجهده في نقل الحقيقة، كل الحقيقة، عملاً يُقتدى به.


(سورية)

المساهمون