24 أكتوبر 2024
الصحافة معالجة معلومات أم تنجيم؟
كثيرا ما نصادف صحفيا أو كاتبا عربيا يقول إنه، في الموضوع الفلاني، كتب في التاريخ العلاني مقالا تنبأ فيه بما جرى بعد ذلك. لا يدّعي ذلك كذبا، فقد يسعفه حظه، في بعض المرات، بكتابة ما يمكن أن يكون نبوءة، لكن هذه النبوءة لا تكون بفعل قربه من موقع القرار أو حصوله على معلومات موثوقة تجعل منها نبوءة مبنية على أساس مهني. غالبا ما تكون النبوءة وليدة المصادفة، اختارها الصحفي من بين احتمالات، فأصابت موقعها، وهي أقرب إلى مصادفات التنجيم منها إلى تحليل المعلومات الموثوقة. ولكن ما لا يتحدّث عنه هؤلاء عشرات المرات، أو مئات المرات، التي خابت فيها تقديراتهم. بل أكثر من ذلك، جاءت الأحداث عكس تقديراتهم تماما، هذه الحالات ينساها الصحفي أو يُخفيها، ولأن الصحافة بذاكرة قصيرة، سرعان ما يطوي الزمان مقالات الكتاب، ولا تجد من يراجعهم في ما كتبوا وأخطأوا. وفي كل الأحوال، سواء نجح الصحفي أو الكاتب بتنجيمه أو فشل، لا يعود ذلك إلى تقصيره المهني، بل يتعلق أساسا بشروط مزاولة المهنة في العالم العربي.
لا يعترف العالم العربي بالصحافة باعتبارها سلطة رابعة، كما هو متعارف عليه في الدول الغربية، لأنه يواجه أساسا تداخلا بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. والسلطة التنفيذية صاحبة الحل والربط، تقاوم أية رقابة عليها، سواء من السلطة التشريعية أو القضائية، واللتين تشكلان سلطتين تابعتين للسلطة التنفيذية. كما أن هذه السلطة لا تجد في الصحافة، وهي غالبا صحافة رسمية، سوى بوق للخطاب الرسمي الصادر عنها، يجري توجيهها بالتعليمات، ولا يكون ناظمها شروطا مهنيةً تسمح لها بأداء دورها المفترض، بعكس ما يجري في مجتمعٍ شفاف بمعالجة قضاياه، سواء كانت في قاع المجتمع، أو في مواقع القرار، وإعطاء القراء والجمهور العام صورة حقيقية عما يجري. ومن النادر أن نجد صحفيا أو كاتبا عربيا على صلةٍ وثيقةٍ بأصحاب القرار. ومهما كانت صلة الصحفي، أو الكاتب، مع مواقع القرار، فإنه يعمل ناطقا باسم من له صلة معهم، لا باحثا عن الحقيقة التي يفترض أن تكون أساس العمل الصحفي. بذلك تفقد مهنة الصحافة أساسها.
صاحب السلطة هو صاحب الصحيفة، فهي ملك الدولة، أي أنها ملك السلطة. عدا عن ذلك،
فإن صاحب السلطة له القدرة على العقاب، ولا يعني العقاب في عالم الصحافة السجن فحسب، بل يعني قائمةً من العقوبات، تبدأ بالطرد من العمل، أو بالوقف عنه، أو بسحب البطاقات الصحفية لمن يعملون مع الصحافة الأجنبية، ما يجعلهم غير قادرين على القيام بأعمالهم لصالح الصحف التي يعملون لها خارج بلدانهم... إلخ. وقد اشتكى رئيس تحرير صحيفة عربية دولية مرات، أنهم عندما يعيّنون في بلد مراسلاً موالياً للسلطة في البلد المعني، فإنه لا يزودهم سوى بالأخبار الرسمية المعروفة. وعندما يعينون صحفيا محسوبا على المعارضة (في حال وجود معارضة)، فإن السلطة لا تزوده حتى بالأخبار الرسمية، ولا يدعونه إلى حضور المؤتمرات الصحفية الرسمية، ما يجعله غير قادر على تلبية متطلبات صحيفته. وتشير هذه الشكوى إلى واقع العمل الصحفي البائس في العالم العربي.
في مثل هذه الظروف، كيف يعمل الصحفي العربي؟ لا مبالغة في القول إن الصحفي العربي يعمل على النفايات، ومطلوب منه أن يخرج منها مادة تستحق القراءة. فهو أعزل من كل شيء، من المعلومات ومن المصادر ومن معرفة خلفيات الأمور، ومطلوب منه، في نهاية المطاف، أن يخرج بما يستحق القراءة، فغالبا ما تكون مصادر الصحفي العربي وسائل الإعلام ووكالات الأنباء، فما يعرفه هذا الصحفي عن الموضوع الذي يريد الكتابة عنه، حتى لو كان عن بلده، يحصل من وكالات الأنباء والصحف الأجنبية على معلوماتٍ أكثر من التي تتوفر له في حال ذهب يبحث بنفسه عن المعلومات في بلده. وحتى عندما تريد سلطات هذا البلد أن تعطي معلوماتٍ للنشر تشكل سبقا صحفيا، فهي لا تختار صحفيا محليا لنشر هذه المعلومات، ولا حتى صحفيا عربيا، بل تختار صحفيا أجنبيا، وتمنحه هذا الشرف، وتحجبه عن صحفييها الذين ينقلون، في نهاية الأمر، عن هذا الصحفي الأجنبي.
في ظل هذه الشروط، ليس غريبا وجود كم هائل من الكتابات الإنشائية التي تملأ الصحف
العربية، كتابات لا طعم لها ولا لون ولا رائحة، كتابة لا توجد فيها سوى لغة سقيمة، فارغة من أية معلومات ذات قيمة. وفي حال اجتهاد الصحفي العربي، فهو يقوم بجمع هذه المعلومات من هذه المصادر ومقاطعتها والخروج بتحليل يصل إلى مستوى مهني معقول. وفي الوقت الذي يعمل فيه الصحفي على مقاطعة هذه المعلومات، يكون المصدر الرئيسي للمعلومات على بعد خطوات منه، لكنه لا يستطيع الوصول إلى هذه المعلومات مباشرة، في وقتٍ تغادر هذه المعلومات إلى قارة أخرى، ليعود هو ويبحث عنها هناك، ليستعيدها ويحاول أن يخرج منها باستنتاجات. وحتى في حال وصوله إلى مصدر المعلومات الأساسي، فهو إما لا يستقبله، أو يعيد عليه معلوماتٍ مكرورة لا جديد فيها، ولا تصل أهميتها إلى أهمية المعلومات التي أعطيت للخارج.
يمارس الصحفي العربي مهنته في شروط مستحيلة، لا يتوفر له الحد الأدنى من الشروط المهنية التي تجعله يستطيع القيام بها. فقائمة الممنوعات والمحرّمات من الموضوعات والقضايا طويلة جدا. ومطلوب منه أن يبتعد عن المستور والمحرّم. هذه الشروط تعدم أية إمكانية للقيام بمهنة تعتمد على كشف المستور، ومتابعة الحقيقة للوصول إلى أعماقها، والتي تغدو مهمة مستحيلة.
مع الشروط المهنية السابقة، يصبح الخيار الوحيد أمام الصحفي العربي أن يعمل منجّما في إطار مهنته. ولا يعني هذا العمل أنه عمل بلا مخاطر، لأنه يسير في حقل ألغام، ففي حال نجاح تنجيمه، ليس من الغريب أن يُراجع من الدوائر الأمنية في بلده، لمعرفة مصادر معلوماته، ومن هو الشخص المسؤول عن تسريب هذه المعلومات. وعندها لا يستطيع الصحفي أن يفسر ما كتبه بوصفه تنجيما صدق، وأن يقنع محققه بأنه "كذب المنجمون ولو صدقوا"، لأن التحقيق يصبح مستندا إلى معلومات حقيقية موجودة في الأدراج.
وفي كل هذه الظروف، مطلوبٌ من الصحفي العربي أن يثبت كفاءة مهنية، وعندما تغيب شروط المهنة، فأي كفاءة يمكن الحديث عنها؟!
لا يعترف العالم العربي بالصحافة باعتبارها سلطة رابعة، كما هو متعارف عليه في الدول الغربية، لأنه يواجه أساسا تداخلا بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. والسلطة التنفيذية صاحبة الحل والربط، تقاوم أية رقابة عليها، سواء من السلطة التشريعية أو القضائية، واللتين تشكلان سلطتين تابعتين للسلطة التنفيذية. كما أن هذه السلطة لا تجد في الصحافة، وهي غالبا صحافة رسمية، سوى بوق للخطاب الرسمي الصادر عنها، يجري توجيهها بالتعليمات، ولا يكون ناظمها شروطا مهنيةً تسمح لها بأداء دورها المفترض، بعكس ما يجري في مجتمعٍ شفاف بمعالجة قضاياه، سواء كانت في قاع المجتمع، أو في مواقع القرار، وإعطاء القراء والجمهور العام صورة حقيقية عما يجري. ومن النادر أن نجد صحفيا أو كاتبا عربيا على صلةٍ وثيقةٍ بأصحاب القرار. ومهما كانت صلة الصحفي، أو الكاتب، مع مواقع القرار، فإنه يعمل ناطقا باسم من له صلة معهم، لا باحثا عن الحقيقة التي يفترض أن تكون أساس العمل الصحفي. بذلك تفقد مهنة الصحافة أساسها.
صاحب السلطة هو صاحب الصحيفة، فهي ملك الدولة، أي أنها ملك السلطة. عدا عن ذلك،
في مثل هذه الظروف، كيف يعمل الصحفي العربي؟ لا مبالغة في القول إن الصحفي العربي يعمل على النفايات، ومطلوب منه أن يخرج منها مادة تستحق القراءة. فهو أعزل من كل شيء، من المعلومات ومن المصادر ومن معرفة خلفيات الأمور، ومطلوب منه، في نهاية المطاف، أن يخرج بما يستحق القراءة، فغالبا ما تكون مصادر الصحفي العربي وسائل الإعلام ووكالات الأنباء، فما يعرفه هذا الصحفي عن الموضوع الذي يريد الكتابة عنه، حتى لو كان عن بلده، يحصل من وكالات الأنباء والصحف الأجنبية على معلوماتٍ أكثر من التي تتوفر له في حال ذهب يبحث بنفسه عن المعلومات في بلده. وحتى عندما تريد سلطات هذا البلد أن تعطي معلوماتٍ للنشر تشكل سبقا صحفيا، فهي لا تختار صحفيا محليا لنشر هذه المعلومات، ولا حتى صحفيا عربيا، بل تختار صحفيا أجنبيا، وتمنحه هذا الشرف، وتحجبه عن صحفييها الذين ينقلون، في نهاية الأمر، عن هذا الصحفي الأجنبي.
في ظل هذه الشروط، ليس غريبا وجود كم هائل من الكتابات الإنشائية التي تملأ الصحف
يمارس الصحفي العربي مهنته في شروط مستحيلة، لا يتوفر له الحد الأدنى من الشروط المهنية التي تجعله يستطيع القيام بها. فقائمة الممنوعات والمحرّمات من الموضوعات والقضايا طويلة جدا. ومطلوب منه أن يبتعد عن المستور والمحرّم. هذه الشروط تعدم أية إمكانية للقيام بمهنة تعتمد على كشف المستور، ومتابعة الحقيقة للوصول إلى أعماقها، والتي تغدو مهمة مستحيلة.
مع الشروط المهنية السابقة، يصبح الخيار الوحيد أمام الصحفي العربي أن يعمل منجّما في إطار مهنته. ولا يعني هذا العمل أنه عمل بلا مخاطر، لأنه يسير في حقل ألغام، ففي حال نجاح تنجيمه، ليس من الغريب أن يُراجع من الدوائر الأمنية في بلده، لمعرفة مصادر معلوماته، ومن هو الشخص المسؤول عن تسريب هذه المعلومات. وعندها لا يستطيع الصحفي أن يفسر ما كتبه بوصفه تنجيما صدق، وأن يقنع محققه بأنه "كذب المنجمون ولو صدقوا"، لأن التحقيق يصبح مستندا إلى معلومات حقيقية موجودة في الأدراج.
وفي كل هذه الظروف، مطلوبٌ من الصحفي العربي أن يثبت كفاءة مهنية، وعندما تغيب شروط المهنة، فأي كفاءة يمكن الحديث عنها؟!