الصادق المهدي لـ"العربي الجديد": القوى الديمقراطية في السودان صامدة

02 يناير 2015
المهدي: البشير هو المُلاحق لا أنا (كريس بورونكل/فرانس برس)
+ الخط -
التقت "العربي الجديد" زعيم حزب الأمة المعارض ورئيس الوزراء السوداني السابق، الذي أطاح به النظام الحالي عبر انقلاب عسكري، الصادق المهدي، للحديث حول جملة من القضايا الجديدة والقديمة، وتناولت مسؤوليته التاريخية في ما يتصل بانفصال جنوب السودان وتكوين دولته المستقلة، والفرص التي أهدرها الرجل للمحافظة على الديمقراطية. 

* بعد 59 عاماً على استقلال السودان عن بريطانيا، ما زالت البلاد وكأنها في مرحلة ما قبل الاستقلال، حتى أن هناك مَن بدأ يتباكى على الاستعمار؟

يجب الاعتراف بأن الحكم الفردي كان أكثر ما دمّر السودان بعد الاستقلال. وأخطر ما في الحكم الفردي وقفه الاجتهاد الفكري والسياسي وتدمير قدرة المجتمع في بناء نفسه. كما سمح غياب الحرية في البلاد، في ترك الساحة رحبة للاتجاهات العقائدية، بالتعاون مع الحكم الفردي، في عرقلة التطوّر السياسي والاقتصادي في البلاد. لا تتوقف الأمور عند هذا الحدّ، بل إن القوة الديمقراطية التي حكمت البلاد بما نسبته 10 في المئة من عمر الاستقلال، فات عليها إدارة التنوّع بطريقة ناجحة. فالحكم الديمقراطي فشل في تقديم مشروع مستدام لإدارة التنوّع، على الرغم من محافظته على الحريات واستقلال القضاء.

* لكن الحكم الديمقراطي لم يستمر إذا ما قورن بالحكم العسكري الذي حكم البلاد لأكثر من 47 عاماً، بدءاً بنظام الرئيس الأول بعد الاستقلال، إبراهيم عبود، وصولاً إلى أيام الرئيس الحالي عمر البشير؟

مع أنها لم تستمرّ، غير أن القوى الديمقراطية حققت استقلالاً حقيقياً، قياساً على أي بلد آخر. ويُعدّ هذا إنجازاً، لأنها صاغت تجربة ديمقراطية حقيقية غير موجودة في المنطقة، وأوجدت جيشاً وخدمات مدنية قومية، قبل أن تُشوّه حالياً، كما أرست مفهوم الاستقلالية وعدم الانسياق إلى محاور. ومع أن التجربة الديمقراطية أُجهضت، غير أن القوى السياسية الحقيقية في السودان لم تتدمّر مقارنة بالقوى السياسية المدنية في مصر أو سورية أو العراق. كما صمدت في وجه محاولات النظام الحالي لتدميرها.

* لكن القوى الحالية هي عينها التي سبق أن اتّحدت لمقاومة نظام جعفر النميري، مطلع الثمانينات، ثم مقاومة البشير تحت مسمى التجمّع الوطني الديمقراطي؟

صحيح أنها اتّحدت، لكنها لم تتفق على رؤية مشتركة ولا على البديل، واقتصر هدفها على إسقاط النميري فقط. كما أن الأولوية كانت لحلّ مشكلة الجنوب، خصوصاً بعد اتخاذ قيادة الحركة الشعبية في التسعينات قراراً بالجنوح نحو التسوية الثنائية مع النظام، بدلاً من الالتزام بقرارات التجمّع. مع ذلك، فإننا نعتقد عموماً بأن التجمّع كان درساً مفيداً، ونحن ندعو إلى الاتحاد مجدداً، وتجاوز فكرة الإطاحة بالنظام إلى تحديد البديل، ورفض التسويات الثنائية، كما حدث أيام جون قرنق، الذي وقّع اتفاقية السلام الشامل مع الحكومة في 2005.

* هناك مَن يُحمّل الصادق مسؤولية إجهاض الديمقراطيات السابقة، خصوصاً أنه تقلّد منصب رئيس وزراء لمرتين.

كنت رئيساً للوزراء في حكومات ائتلافية مع حزب فضّل العصبية الحزبية على الديمقراطية (في إشارة للحزب الاتحادي بزعامة محمد عثمان الميرغني). وهذه كانت واحدة من المشاكل، إذ لم نُمنح الفرصة الكافية للحكم. ففي عهد الديمقراطية الأخيرة التي أطاح بها النظام الحالي، استطعنا تأمين الوحدة الوطنية داخل البرلمان، على الرغم من أن الحزب الحليف لم يكن صادقاً في الائتلاف، وحاولنا معالجة الخلافات ضمن الاطار الديمقراطي، إلى أن حصل الانقلاب.

* مع أنه رُفعت لك تقارير بشأن التحرّك الانقلابي، فلم تتعامل معه بالجدية المطلوبة؟

لا، هذا غير صحيح، فقد ناقشنا المعلومات التي وصلت إلينا وقتها بشأن التحرّك الانقلابي، مع قادة الجيش، وأكدوا لنا قدرتهم على حماية النظام الديمقراطي، والتزموا بذلك. لكن النظام الديمقراطي، برأيي، لا يستطيع حماية نفسه من مؤامرات أوتوقراطية، عكس النظام الأوتوقراطي، الذي يستطيع حماية نفسه، لكون الأمن أولوية له، ومستعدّ لإلقاء القبض على الناس بمجرّد الظنّ.

* هل يعني هذا أن الديمقراطية تحتاج إلى مراجعة؟

نحاول تكريس العمل الديمقراطي في مجتمع ذي ولاءات موروثة وغير ديمقراطية، سواء طائفية أو قبلية، وهذه مشكلة حقيقية. أما في الغرب، فلم تُبنَ الديمقراطية إلا بعد أن أصبح الولاء للدولة. نحتاج إلى زمن حتى نصل إلى الولاء للدولة، كما أن الديمقراطية مرتبطة بدرجة عالية من التنمية، ونحن نحاول إنشاء ديمقراطية في ظلّ الفقر، كما نبنيها في ظلّ النفوذ الأجنبي. مع ذلك، لا يعني هذا أن الديمقراطية مستحيلة، لكنها تحتاج لزمن لكي تتحقق. لكن للأسف، إذا وُجدت جهات مستعدّة لتتآمر ضد الديمقراطية، في وجود هذه الهشاشة، فمن الممكن جداً أن يتم إجهاضها.

* برأيك لماذا يطول عمر الأنظمة العسكرية؟

لأنها تصادر حقوق الانسان، فإذا وافقت جميع الأطراف على معالجة الخلافات في إطار قوانين الديمقراطية، فلن تكون هناك مشكلة، لكن للأسف هناك مَن لديهم أفكاراً عقائدية، يُمكن أن يفكروا في اختصار الطريق بالانقلاب، قبل أن يصبحوا ضحيته.

* لكن حزبك نفسه شارك في إيصال العسكر للحكم؟

هذه شبهة كبيرة. الانقلاب الكبير الذي دار حوله حديث عن مشاركة حزب الأمة فيه، هو الانقلاب الأول الذي جاء بعد الاستقلال. وقعت اضطرابات في حينه بين القوى السياسية، وأدّت هذه الاضطرابات إلى زعزعة حزب الأمة، الذي كان متحداً مع حزب الشعب الديمقراطي. وبتنا نتحرّك على قاعدة العمل بالدستور، وتأمين الاستقرار. اقترح رئيس الوزراء وقتها، عبد الله خليل، بصفته عسكرياً سابقاً وسكرتيراً في حزب الأمة، على الحزب تسليم السلطة للجيش، لستة أشهر، على أن يعود لاحقاً إلى ثكناته. رفض حزب الأمة ذلك، بعد التصويت الداخلي، إذ صوّت 13 شخصاً ضد الاقتراح، بينما أيّده اثنان. وانتهى الموضوع. وكان والدي، الصديق المهدي، رئيساً للحزب، وكان يعتقد أن أي كلام عن حل غير ديمقراطي مرفوض. وكان يظنّ أن الحلّ يكمن في التخلّص من الائتلاف مع الشعب الديمقراطي والاتحاد الديمقراطي، ورتّب لذلك، لكن عبد الله خليل، وخوفاً من أن يأخذ حزب إسماعيل الأزهري منصبه، سلّم السلطة للجيش. واعترف بأن الخطوة جاءت بقرارٍ منه، لا بقرارٍ حزبي.

* الصادق يتحمّل جزءاً من مسؤولية انفصال الجنوب؟

لماذا؟ هذا ظلم.

* هناك مَن يقول إن الصادق، وبسبب الغيرة السياسية، أجهض اتفاق الميرغني ـ قرنق، الذي وضع الأساس لاتفاق سلام كان من شأنه تجنيب البلاد الانشطار في 1989؟

كان رأيي في حينه، بأن اتفاق الميرغني ـ قرنق صحيح، ولا بدّ من الترحيب به، وأبلغت الميرغني بموافقتي على الاتفاق، لا بل التقيت وفد الميرغني المفاوض للحركة الشعبية، في حينه، ومنحتهم الأسس العامة للاتفاق، وطلبت مهلة لأحلّ المشكلة لأنني كنت أريد أن يكون الاتفاق جماعياً، لا ثنائياً. فقد ظهرت غيرة حزبية داخل حزب الأمة، كما عارضت الجبهة الإسلامية الاتفاق. لكنني مضيت في تنفيذ الوعد، ووافقنا على الاتفاق قبل خمسة أشهر من انقلاب جبهة الإنقاذ. كما حددنا تاريخ 19 سبتمبر/أيلول 1989، موعداً لعقد مؤتمر دستوري، واتفقنا يومها على جملة إجراءات تتصل بالجنوب، منها، استثناءه من أي أحكام إسلامية ونصيبه في السلطة والثروة، ولم يكن هناك حديث عن تقرير مصير أو وساطة أجنبية، إلى أن قطع الانقلاب الخطوة وركل الاتفاقية، وجاء باتفاقية نيفاشا، التي أدت في النهاية لانفصال الجنوب.

* يعني هذا أنك تُحمّل النظام في الخرطوم المسؤولية وحده؟

المسؤولية الأساسية تقع على دولة الاحتلال الأجنبية، لأنها طبّقت نظام الفصل العنصري بين الشمال والجنوب، كما تشمل المسؤولية حكم إبراهيم عبود في الستينات، الذي قام بأسلمة وتعريب الجنوب، وطرد المبشرين المسيحيين من هناك. فضلاً عن أن نظام النميري يتحمّل المسؤولية عبر إجهاضه اتفاقية أديس أبابا التي وُقّعت مع الجنوبيين في 1972.

أما المسؤول الكبير والخطير فهو النظام الحالي، الذي أجهض اتفاقية 18 سبتمبر 1989، وأعلن إسلامية البلاد وعروبيتها، الأمر الذي قاد الجنوبيين للمطالبة بحق تقرير المصير بشكل جماعي، للمرة الأولى، عندما جمعهم السناتور الأميركي هاري جونسون في الولايات المتحدة في أكتوبر/تشرين الأول 1993.

* لكن الأحزاب السياسية نفسها، في مؤتمر أسمرة، في العام 1995 أقرّت حقّ تقرير المصير للجنوب؟

أجمع الجنوبيون على تقرير المصير، وإعلان أسمرة بات تحصيل حاصل، لكن الذي حسم الموضوع، هو تبنّي حكومة الخرطوم فكرة المؤتمر الشعبي الاسلامي العربي في 1992، والذي عرّف هوية السودان بالنظام الانقلابي، وجعل الجنوبيين يوقّعون على المطالبة بتقرير المصير. من مسؤولية النظام الكبيرة، أن إدارة الاتفاقية من 2005 إلى 2011، أقصت الجنوبيين، وعملت لأن يكون الانفصال حلاً مناسباً، لا الوحدة. كما أن تصرّفات حزب المؤتمر الوطني، جعلته يخسر القوى الدولية التي أصبحت تتعامل مع الشمال بمنطق عدائي، وبودّية مع الجنوب، ما ساهم في التباعد بين الشمال والجنوب.

* هل تعتقد أن منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان تتجهان نحو الانفصال، وكيف تنظر للمخاوف التي رافقت المطالبة بالحكم الذاتي في المنطقتين؟

جاء مقترح الحكم الذاتي نتيجة المزايدات، لكننا نعتقد أنه، بحسب اتفاقنا مع الحركة الشعبية، أن هذا الموضوع سيُحسم على طاولة مستديرة، بمشاركة كافة القوى من دون استثناء. ونعتقد أنه سيتم الاتفاق خلالها على هذا الدستور، الذي سيُحمّل صلاحيات مركزية وإقليمية، تكون بمثابة صيغة لامركزية أو فيدرالية لكل السودان، بما فيها المنطقتين.

* يعني هذا أنك لا تتفق مع ما يتم تداوله في شأن وجود استراتيجيات دولية تسعى إلى فصل المنطقتين بالإضافة إلى دارفور؟

الاستراتيجية الدولية الوحيدة العدائية تجاه السودان تتجسّد بإسرائيل التي ترغب في تقسيم مصر إلى ثلاث دول، والسودان إلى خمسة، والعراق إلى ثلاثة والسعودية إلى دويلات عدة، لكن الولايات المتحدة والأسرة الدولية يرفضون ذلك، على اعتبار أن تعدّد الدويلات يفتح الباب للحركات الارهابية، فالأميركيون والبريطانيون لم يرغبوا بانفصال الجنوب حتى.

* لماذا ترفض الحكومة محاورة القوى السياسية والجبهة الثورية ككتلة واحدة؟

لأنه لم يتمّ تنفيذ ولا اتفاقية من الاتفاقيات الـ16 التي وقّعها النظام مع الحركات المسلّحة، وجميع مَن وقّع، يشعر بالغبن. أستطيع تفهّم عدم استعداد النظام للجلوس مع مَن يريدون إسقاطه بالقوة، وهذا البند زال تماماً في إعلان باريس. كما أن عقبة عدم جلوسه مع من يريد تجزئة البلاد عبر تقرير المصير، انتفت تماماً، وأُزيلت كافة العقبات والحركات.

* الصادق متهم بتلقّي أموال من النظام بشكل شهري لتنفيذ ما يطلبه وللصمت؟

هل أنا صامت الآن؟

* ينظر لتحركك الحالي كردة فعل طبيعية لدخولك السجن في مايو/أيار الماضي؟

لا قيمة لهذا الحديث. فقد اعتُقلت لانتقادي قوات الدعم السريع، "الجنجويد"، وبالنسبة إلى الأموال، فإن لدينا في ذمّة النظام 8.2 مليارات دولار، بسبب مصادرته مقتنيات الحزب عند تسلّمه السلطة، ولم نستلم إلا 513 مليون دولار فقط. ونعترف أننا أخطأنا عندما لم نلجأ لإبرام اتفاق معهم بشأن ذلك الاستحقاق وفتحنا الباب لاستغلاله في تشويه صورتنا.

* وماذا بشأن مواقفك في ما يتعلق بتظاهرات سبتمبر 2013، وعدم المشاركة فيها؟

خرجت معظم التظاهرات من دار حزب الأمة أو مسجد الهجرة التابع للحزب. ما قلته في حينه إن هؤلاء الشباب قرروا الخروج، لا نحن، ومحقون في ذلك، لكننا عملنا على فضّ العدوان عليهم من قبل السلطات السودانية ودافعنا عنهم.

* هل تعتقد أن النظام يمكن أن يتراجع ويقبل بإعلان باريس ونداء السودان الموقّع مع الجبهة الثورية؟

بدأ النظام يرضخ بالنظر لاتفاق أديس أبابا الموقّع مع لجنة السبعة، الخاصة بالحوار.

* لكن الاتفاق لم ينتقل إلى أبعد من مرحلة التوقيع؟

ستأتي ظروف تسمح بتنفيذه، والضغوط الداخلية والخارجية ستمثل أرضية لذلك.

* هل إن وجودك في مصر هو خوفاً من الملاحقة الجنائية؟

البشير هو الملاحق دولياً، لا أنا. قالوا إننا وقّعنا اتفاقاً مع الحركات المسلحة بواسطة إسرائيل، وهذا حديث لا أساس له.

* تقوم بجولات خارجية ويمكن أن تتمّ وأنت في الخرطوم؟

لا أستطيع السفر انطلاقاً من الخرطوم، فقد يمنعوني، لأن القوانين ظالمة هناك. لديّ برنامج محدد، وأعود حين أنتهي منه. أما فكرة التهديد بالاعتقال فلا تخيفني.

* هل لدى الصادق طموحات بتكرار تجربة الحكم؟

أطمح إلى دستور ديمقراطي يردّ للبلاد حقها، وأصبّ كل اهتمامي في العمل من أجل سلام عادل وشامل مرفق بتحوّل ديمقراطي كامل.

* كيف تنظر لتصعيد الحكومة مع الأمم المتحدة وإقدامها على طرد اثنين من كبار موظفي المنظمة الدولية؟

عبارة عن تصرّفات فردية انفعالية، ستزيد في خسارتها القوى الدولية.

* هل وجودك خارج البلاد مقلق للحكومة، وألا تعتقد أن بقاءك في مصر يحرج الحكومة المصرية بعد محاولات التقارب الأخيرة بين الدولتين؟

أعتقد أن الخرطوم تعلم أنني أعمل بشكل فعال على كشف سياساتهم الخاطئة وفي اكتساب الحلفاء، من أجل تأمين الموقف الوطني وتفعيل التحول الديمقراطي الكامل. أما في ما يتصل بالحكومة المصرية، نحن ندرك أن هناك ضرورة للتعايش بين البلدين، وأعتقد أن علاقة القاهرة والخرطوم متناقضة في ما يتصل بالموقف من الاخوان المسلمين والأزمة الليبية ودول الخليج وجنوب السودان.

المساهمون