الشيوعي الذي احتفظ برأسه

07 يونيو 2017

عزيز محمد.. قاد الحزب الشيوعي العراقي نحو ثلاثة عقود

+ الخط -
رحل عزيز محمد (93 عاما)، آخر الشيوعيين الرواد العرب، لينضم إلى من رحلوا قبله، السوري خالد بكداش الذي قاد الحزب الشيوعي 58 عاما، ورحل وسط غضب مناصريه، بسبب سيطرته العائلية على الحزب، وتوريثه موقعه إلى زوجته، واللبناني جورج حاوي الذي قيل إن المخابرات السورية كانت وراء تفجير سيارته على خلفية وقوفه ضد التدخل السوري، والسوداني عبد الخالق محجوب الذي أعدمه جعفر نميري بعد فشل الانقلاب الذي قاده ضباط يساريون، على الرغم من أنه لم يكن معهم، والمصري زكي مراد الذي قيل إن مخابرات أنور السادات دبرت حادثة اصطدام سيارته التي كان يقودها وقضت عليه، لمعارضته اتفاقية السلام.
وحده من بين الشيوعيين الرواد العرب، عزيز محمد (أبو سعود)، ظل صامدا في مواجهة رياح التغيير، قاد الحزب الشيوعي العراقي نحو ثلاثة عقود، واحتفظ برأسه سالما على الرغم من الأحداث العاصفة التي رافقت مسيرته، منذ عهد الملوك وحتى عهود الجمهوريات، وصولا إلى الاحتلال. دخل خلالها السجن مراتٍ، لكنه كان يخرج سالما في كل مرة، آخرها في سبعينيات القرن الراحل، إذ نجا من مكيدةٍ دبرها صدام حسين للتخلص منه. وبحسب ما يرويه غالب زنجيل، الذي كان معتقلا ضمن مجموعة البعثيين المنشقين الموالين لدمشق، جيء بعزيز إلى معتقل قصر النهاية بتهمة أنه "بعثي منشق"، وتعرّض للتعذيب والإهانة، والتهديد بإعدامه، لخروجه على وحدة حزب البعث، وظل أياما يؤكد للمحققين أنهم على خطأ، وأنه شيوعي معروف، وهو الأمين العام للحزب، ولا صلة له بالبعثيين المنشقين، لكنهم كانوا يقابلونه بالإصرار على إيذائه، إلى أن وصل خبر اعتقاله إلى رفاقه الذين كانوا يفاوضون الحكم على إقامة "جبهة وطنية". وشكوا الأمر إلى صدّام حسين الذي أمر بإطلاق سراحه فورا، والاعتذار عما جرى له، زاعما أنه لم يكن يعرف بذلك.
وواقع الحال، والرواية ما تزال لغالب زنجيل، أن عزيز كان متردّدا في البداية في القبول بصيغة جبهة مع "البعث"، لشكوكه في نيات السلطة، ما أغضب صدام الذي طلب من رجل الأمن الأول حينذاك، ناظم كزار، اعتقاله بحجة ما وإيذاءه، وتفتق عقل كزار عن تلك الحيلة الماكرة التي كلفت عزيز فاصلا من التعذيب والإهانة على أيدي جلاوزة الأمن.
لم يتحدث أبو سعود عن تلك الواقعة، ولا عن وقائع مماثلة، حفلت بها حياته، في مقابلاتٍ صحفيةٍ نادرةٍ تناول فيها شذراتٍ من وقائع حياته ومسيرته النضالية التي امتدت عقودا طويلة، إذ كان يرفض دائما إجراء مقابلات صحفية أو كتابة مذكراته، وكان يردّد "لو تكلمت لقلت الحقيقة، ولو قلت الحقيقة لجرحت أصدقاء ورفاقا ومناصرين، وأنا لا أريد أن أوذي أحدا". ويُذكر له، في معرض تواضعه ومناقبيته، رفضه، في البداية، أن يكون سكرتيرا للحزب، لأنه كان يعتقد أنه غير مؤهل لذلك، لعدم تضلّعه في الثقافة الماركسية، ولأنه كان الأقل في المستوى الدراسي بين رفاقه، إذ لم يتسن له أن يكمل تعليمه بسبب فقره. ومع ذلك، تمكّن من أن يعوّض ذلك بالقراءة الجادة عندما كبر، خصوصا في فترات سجنه، وأصبح على معرفة بعدة لغات، منها الإنكليزية والروسية. ويسجل له أيضا أنه تخلى عام 1993 عن موقعه القيادي باختياره، منطلقا من قناعته بضرورة تعميق الديمقراطية في الحزب وتجديده، وحرصه على أن ينفتح الحزب على الكفاءات الشابة، وفضّل الانزواء في بيته في ضواحي مدينة أربيل الشمالية، من دون أن يأخذ معه رجال حماية أو مرافقين كما فعل غيره. ولم يعد يفصح عن وجهات نظره في الشؤون العامة الجارية، حتى لا يعتبر ذلك توجيها ملزما لحزبه، ومكتفيا باستقبال أصدقائه ورفاق مسيرته والدردشة معهم.
ويُؤثَر عنه أنه دان "أخطاء الأحزاب الشيوعية التي فقدت مصداقيتها، وتحولت إلى أحزاب للنخبة ذات امتيازات عديدة، وميّزت بين المواطنين، وأفقدتهم حرياتهم الأساسية، بعيدا عن جوهر الاشتراكية وأهدافها وقيمها"، لكنه لم يشأ أن يوجّه نقدا مباشرا إلى قيادات حزبه، فيما كان متابعون عديدون لسيرته ينتظرون منه أن يقول لرفاقه: "أخطأتم الطريق، وضعتم أيديكم بيد بول بريمر، ورضيتم بأن تحضروا في مجلس الحكم الطائفي الذي أنشأه، وقد آن لكم أن تعترفوا بخطيئتكم، وتعتذروا عنها"، لكنه رحل ولم يقلها.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"