بالطريقة عينها لما حصل مع الباروكو الجديد أو الشعر التجريبي، ويسمّى أيضاً "شعر الخطر" في بلدان كالأرجنتين والمكسيك، وفي إسبانيا بـ"التجربة"، اتّهم باتخاذه موقع سلطة ثقافية. ميغيل كاسادو (1954)، أحد أشد منتقديه، الذي حاول تعريف الشعر بالغرابة والمجهول وبغير المتوقع. بالنسبة له، فكتابة الشعر هي السير كالأعمى ملامساً الأرض، وما هو متعذر تفسيره.
خلق عمله النقدي فضاء لشعراء مثل أنتونيو غامونيدا وخوان خوسي أويّان. رغم أن شعريته لا ينظر إليها كشعرية عالمة أو جريئة جداً، فكرة الناقد الأوروغواياني إدواردو ميلان نفسها في أن "الذي يأخذ وجهة نظر الحركات التجديدية وفقط من يمكنه أن يدافع عن تقليد حي".
إدواردو ميلان، من جهته، يعتقد أن الشعر المعاصر في الإسبانية يواجه اثنين من المفاهيم الرئيسة للشعر: التبعية للحركة التجديدية والتي تطالب بربط الصلة بالتقليد الغنائي. ويوضح بأن خلف الواجهة الفوضوية، يوجد تمظهران للشعر الأمريكولاتيني المعاصر: الأول، ينبثق من التأثر الذي تعرضت له الحركات التجديدية التاريخية في أميركا اللاتينية من خلال "قراءة دقيقة جداً" مبنية على تلاعب اللغة؛ والتمظهر الثاني، يرجع إلى الماضي الشعري ويبحث، "بطريقة غير منتقدة جداً"، أخذ موطئ قدم من خلال وهم نظري، تقريباً مؤقت، يعد بالاستقرار أمام الفوضى المهيمنة ليس على الشعر فقط، وإنما عل جهاز القيم للعالم المعاصر.
بهذه الطريقة، تميزت الحقبتان الأخيرتان من القرن العشرين والأولى من القرن الواحد والعشرين، بصراع بين شعرييتين تَعْبُران اللغة الإسبانية. من ناحية أخرى، لا ينبغي إغفال أن أعظم ثروة لشعرنا تكمن في تعدد الأصوات والأساليب. الانتقائية الخاصة بالفترة الثقافية التي نمر منها تكمن، بطبيعة الحال، في الشعر المتنوع، وفي وفرة الأساليب وفي تعقيد ملفوف في تأثيرات تتجاوز الأدب، والموسيقى، والفنون التشكيلية1.
رغم ما سبق، وكما لاحظ ذلك إدواردو ميلان، وطوني أُووَاغلاند، أو مارجوري بيرلوف، في تقاليد غنائية أخرى، تحديداً الشمال أميركية، دائماً ما تتواجه طريقتان في فهم الشعر، وحلقات جديدة من التقاطع بين أسلوبين: الآتيكية (نسبة إلى آتيكا، منطقة يونانية قديمة) والآسيوية، متبنيّ "الوضوح" أو "الغموض".
من ناحية، نلاحظ شعرية الخطر باحتمالاتها المختلفة، ومن ناحية ثانية، شعرية غير مهتمة بشكل كبير بالقطيعة الجذرية مع التقليد، وتبحث عن بناء أعمال فنية لفظية تعمل بفضل تلاعبات الذكاء، والهزل في أشكاله المختلفة، والنبرة العاطفية والمثيرة للشفقة، أو من خلال ظهور طقوس، نصوص موسومة توصف، بشكل سيئ، بـ"المحافظة" وتعرف بالإنجليزية بعبارة "قصائد منظومة نظماً جيداً"2.
هذه المواجهة ليست في أنماط شعرية فقط، وإنما تظهر الصراع حول السلطة الثقافية وتوزيعها للرأسمال الرمزي. طريقة عمل "الخطر" مثيرة للاهتمام بشكل خاص. فحسب خورخي ميندوثا، "هو ذو وجهان. في معنى يقع في هامش النسق الجمالي، في فضاء "التجاوز"، بينما يتموقع المستوى السياسي في مركز السلطة الثقافية". شعر الخطر، مدعوماً بمنطقة شعرية أرجنتينية ما، وبيروفية، وتشيلية وبرازيلية، خاصة، فضلاً عن انتعاش الكتاب المثقفين (إكتور بييل تيمبيرلي، وماروسا دي دجيوردجيو، وخيراردو دينيث، وإوغو غولا، وغيرهم) والمساهمات التجريبية للشعر الإنجليزي، ولّدت نوعاً من الخطاب الذي فضّل البحث عن النتيجة.
كان لكاتب الكلاسيكي وِيلدْ يعتقد أن "النوايا الحسنة يمكن أن تكون لها قيمة في النظام الأخلاقي، ما عدا الفن. التّوفر عليها لا يكفي، إذ يجب تنفيذ العمل الفني". على النقيض من ذلك، فإن الكتّاب المعروفين بشعر الخطر يتخلّون عن فكرة العمل الفني (يفضّلون ما يطلق عليه "العمل في تقدم") لكي ينأوا بأنفسهم عن أغلال الصبغة الأدبية. لا وجود للقصائد، هناك نصوص حاضرة. هذه الشعرية، بطبيعة الحال، لم تعتمد قط على ضرورة التوافق لتهيمن. كان لويس غارثيا مونتيرو يقلل من شأنها عند قوله: "أينما وجدت كتابة سيئة فهناك انبهار كبير"3.
انهيار "القصيدة التقليدية" يكمن في الميل إلى الخطب المجزأة وتعدد الأصوات، إضافة إلى الإرداف أو تلقائية غير واعية4. يفترض هذا التيار أن الشعر مكبّل عند اعتباره بشكل أساس رابطاً تواصلياً، إضافة إلى أنه يشترط على القارئ المشاركة في الرؤية الوحيدة والمفضلة، والمتشبعة بالعاطفة، للشاعر. أيضاً، يبغض التعامل المتسامي للقصيدة كهدف للوحي.
في المقابل، يتعلق الأمر بشعر يسائل في الممارسة الشعرية الغنائية ورصانة الموضوع المطروح من خلال إشكالية شكلية أو فكرية للقصيدة. هناك في هذا الشعر افتتان بما يمكن أن يطرأ، بغير المتوقع، وبما لا يتوافق والمناخ السائد، ونزع صفة القدسية عن مكون الشعر والأدب الذي لا يبدو أنه أدبٌ: الاستمتاع بالفن الهابط. تقبل وهناك بحث متعمد عن الأشكال الناقصة5.
بهذه الطريقة، يرتفع مفهوم القصيدة من أجل احتواء بنيات أخرى كالأجزاء، والتنوعات المعجمية6 الكبيرة، والشظايا النحوية، والآلات النصية، المافوقتهجينية، وكتابات محدودة.
الحساسية التي تؤججها القطيعة مع التقليد ومفهوم الشعر عينه، وكذا المتعة القصوى في الشكل ومادية اللغة، كانت قد سُمّيت من قبل الكاتبة الأمريكوشمالية سوسان سونتاغ بـ"كامب" camp: حب نحو ما هو غير طبيعي، المصطنع والمبالغة. تيارُ مُتكلفة جديد7.
اختيار المصطلح الأخير ليس اعتباطاً. رغم أن الوقت ليس دوّاراً ولا يتكرر، مذ 1987، عندما نشر عمر كالابريسي في "باري ليتا نيوبارُّوكا"، قيل إن المرحلة التي نعيشها، مرحلة ما بعد الحداثة، تعرض سمات ثقافية مشابهة جدّاً للباروكو التاريخي8.
الأمر ذاته كان يعتقده بوليبار إتشيبيريا عندما وصف أن "لبّ الباروكو استمر في الانتاج بكل الطرق كمقترح أصيل للإنسانية الحديثة". هناك عناصر كافية لافتراض ليس ما يتكرّر اليوم، ربما كمهزلة، ما حدث في النصف الثاني من القرن السادس عشر، وإنما موضوعية زماننا شبيهة جدّاً لتلك التي، من المحتمل، تولّد أثاراً مماثلة.
في إسبانيا القرن السادس عشر، إسبانيا الإمبراطور ساكرو إيمبيريو رومانو خيرمانيكو، في إسبانيا التي كانت تقول "عن أراضيَّ لا تغيبُ الشمسُ" الجدة وشعاع الشعر الإيطالي تطور نحو التّكلفية. تحدد هذه الحقبة من خوان بوسكان إلى الأساطير الأربعة (غارثيلاسو، وفيرناندو دي إريرا، وفرانثيسكو ألدانا، وفرانثيسكو دي فيغيروا)، مروراً بديِيغُو أورتادو دي ميندوثا، ثم أولهم غونغورا.
ومع ذلك، في ذلك الوقت، أحدثت ظروف مختلفة تغييراً في الشعور. انْتُقل من الحماس إلى خيبة الأمل. أولاً، سياسياً: حرب المجتمعات، التي أنذرت بها الثورة البورجوازية الأولى ذات المقام الكبير، والتي فشلت. كانت سنة 1521 سنة المفارقة الحزينة لتاريخنا. عندما انتصرت كرونا على تينوتشتيتلان، عاصمة أقوى إمبراطورية في العالم الجديد، فقدت في بيالارْ مستقبلها عند سحق القشتاليين. كان الانتصار، بعد مرور قرون، هزيمة نكراء. أميركا ولدت ميتة.
ثانياً، اقتصادياً: إفلاس سنوات 1557، و1975، و1595، أظهرت التفكك والوضعية المحدودة لإسبانيا: إذ انتشر الفقر في المملكة كلّها. ثالثاً، عسكرياً: بعد الانتصارات وتفاؤل سان كينتين وليبانتو، وهزيمة "الأسطول الحربي الذي لا يقهر"، نفث الغبار على الهيمنة الإسبانية. زعزعة ثلاثة مجالات أظهرت وجه الأزمة وسمحت ببروز شعور يهيمن عليه التشاؤم والغموض.
إنها السنوات التي، في الأدب، سجّلت تغييراً في التّوجه الفني لتيار المُتكلّفة الذي سماه أتزفيلد "الباروكو الخالص"، أسلوب يهيمن عليه الاتزان، والشدة، والقلق، وعدم اليقين والتخلي عن التنميق. باروكو يملأ الشكل صراعاً ويعطيه معنى9.
إذا فهمنا أن الباروكو كلازمة للروح؛ أي كطريقة لربط الصلة بين الموضوع والهدف، الإنسان والعالم، والذي يسود فيه الهدف على حساب الموضوع، والعالم يثقل كاهل الإنسان، والزمن الذي نعيشه مروّض بلا شك من قبل الإحساس الباروكي10.
الظروف المعيشية الناتجة عن نظام-العالم، حسب مفهوم إمانويل والرشتاينْ، بطبيعة الحال، تولد خيبة أمل. بالنسبة له، عشنا، على الأٌقل منذ 1989، ما يعرف بالمصطلحات الاقتصادية بالمرحلة "ب" لـكوندراتييف11. يتعلق الأمر بكساد اقتصادي، وبعد مرور مدة، يميل إلى الانتعاش، ويرجع إلى المرحلته "أ".
ومع ذلك، وفقاً لحسابات والرشتاينْ، فالجنوب أو العالم الثالث (أميركا اللاتينية، وعلى نحو متزايد إسبانيا) خلال المرحلة ما بين "2000-2025 معرّض لخطر الانحصار الاقتصادي. من المحتمل أن تتراجع الاستثمارات (في مرحلة "ب" لكوندراتييف) في معظم أنحاء الجنوب وأن يستمر، بدلاً من الاستثمار في المرحلة المستقبلية "أ". ومع ذلك، فإن متطلبات الجنوب الاقتصادية لن تكون قليلة، وإنما ضخمة. ما سبق ينذر بمشهد أزمة طويلة الأمد. والوضعية المحدودة للشعر هو بالكاد مجرد وجه من الوجوه العديدة لظاهرة أعمق، أزمة نموذج، أزمة حضارية.
هوامش
1 ويشير لويس مارتينيث أندرادي إلى أن "الانتقائية هي سمة خاصة بأدب ما بعد الحداثة حيث تتُّخذ كل المواقف وفقاً لمعايير أخلاقية مختلفة؛ أي ليس هناك توحيد في الأفعال، لذلك، كل شيء مسموح به. كل شيء يمكن تصوّره كتجربة جمالية".
يتعلق الأمر بظاهرة لاحظها ليوطارد منذ الثمانينيات: "الانتقائية هي الدرجة صفر للثقافة العامة المعاصرة: نسمع موسيقى الريغي، ونشاهد راعي بقر، ونتناول وجبة ماكدونالد عند الظهيرة وطبق أكلة محلية في الليل، ونضع عطراً على طريقة باريس في طوكيو، ونلبس متّبعين الأسلوب القديم في هونغ كونغ، والمعرفة هي مادة ألعاب تلفزيونية […] هذه الواقعية تتكيّف مع جميع التيارات".
في هذا الصدد، بطريقة ما وعلى الأقل على صعيد أكثر سطحية، الشعريات باتت سلسة، من أجل توظيف مفهوم شعبوي معروف عند سيغمونت بومان بـ: "السلاسة كاستعارة حالية للحياة المعاصرة […] الأشياء السلسة، على عكس الأشياء المتصلبة، لا تحتفظ بسهولة على شكلها. الأشياء السلسة لا تركّز على الفضاء ولا تتعلق بالزمن […] الأشياء السلسة لا تبقي على شكل لفترة طويلة جدّاً وتظل باستمرار جاهزة (وعرضة) للتغيير".
أمر شبيه يحدث مع الشعر المعاصر الذي يفضل مفهوم الحرية على أن يثبت ويلتزم بشعر واحد وحتى أنه قدّس مفهوم "تعدد الأصوات" كإجراء يمثل هذه الحالة. 2 تقول مارجوري بيرلوف إن كل ما يقرأ حالياً يستجيب لهذين النوعين من الشعرية اللذين يصنفان في الولايات المتحدة ضمن المذهبين "التصوري" و"المحافظ". الإجراءات التي تميز هذان التياران هما كالآتي: "1) سطور القصيدة الحرة تكون غير منتظمة مع التركيز أو عدمه على بنية البيت الشعري نفسه، متّبعين في ذلك مفهوم الشكلانيين الروس في "الكلمة عينها"؛ 2) نثر نحوي (في ترتيب الكلمات) مُترع بجمل موضوعة بين قوسين أو بحروف جر مصحوبة بصور جلية أو استعارات فيها تنطّع (ميزة الشعرية)؛ 3) التعبير عن أفكار عميقة أو طقوس صغيرة، تستند عادة على ذاكرة خاصة تُعيّن لموضوع الشعر الغنائي شخصاً حساساً بشكل خاص يشعر فعلا بالألم" ("شعر الهامش").
من جهته، يعتبر، توني أُواغلاندْ، أن الشعر الشمالوأميريكي ظهر مع ووردزورث، من جهة، ومن وستيفنزْ، من جهة ثانية. أما الشعر "المواءمة"، شعر وردزورث، هو "تجاوز عفوي للمشاعر القوية التي تجد أصلها في العاطفة الساكنة في الهدوء". في هذا الشعر، "قوة العواطف يمكن تحصيلها، وأن تعاش من جديد، وأن تترجم في المختبر المركزي للقصيدة؛ هذا الشعر يبني أفاقاً للقارئ".
ما يتخالف وهذا الشعر هو فكرة أن "الشعر يجب أن يقاوم الذكاء، بنجاح دوماً تقريباً". هو هكذا "كستيفنزْ الذي يقترح أن القصيدة الجيدة تقاوم، وتلف القارئ وتحاصره (بما في ذلك الشاعر ربما) انتظارتاها هي تحدي وغير مضمونة بأي حال من الأحوال" ("اعترافات").
3 هذه الفكرة ذاتها يؤيدها الشاعر والمترجم الروسي- شمالوأمريكي ماتفي يانكيليفيتش. يقول إن الشعر هو شعر "بموجب فكرة روبرت روزنبرغ عندما كتب: هذا وصف إريس كليرت إذا أنا قلت ذلك"(المنطقة الرمادية).
4 من جهة أخرى، كما ذكرت من قبل مارجوري بيرلوف،"القصيدة المنظومة نظماً جيداً" "يمكن تفكيك الخطاب المهيمن –فقط إذا استعمل بشكل "سيئ بطريقة فعالة"، هذا هو، إذا جاز في" السّهاب" في كلمة حد فقدان المعنى ("كلمة- بلا معنى") (ما ليس شعرياً، ومبتذلاً، وشائعاً، ومتداولًا، والكلمة، وتعبير وجملة كل يوم، بما في ذلك الوقف المفاجئ، والصمت الغريب) دخولها في النص، وتكسير، وتعطيل مساحة الصوت".
ما سبق ذكره يمكن أن يسمح بتخمين: أن القصيدة الأقرب إلى "المواءمة" يُفضّل أن تتحرّك على صعيد الخطاب بينما القصيدة القريبة من "الخطر" فتميل إلى مستوى الجملة.
5 أما الشاعر البولندي زبيغنيو هربرت فيقول إنه بعد الحرب العالمية الثانية، فترة ظهور تيار ما بعد الحداثة، أصبحت الأساليب الأدبية القديمة بلا فائدة (ماكلاتشي 146). درس بول أوسترْ أيضاً بعناية مفهوم الشعر وقال إنه من الضروري "تغيير طبيعة انتظاراتنا. ما عادت القصيدة سجلاً للمشاعر، أو أغنية أو تأملًا (…) القصيدة هي صراع: بين تفكيك القصيدة والبحث عن القصيدة الممكنة".
6 يصف كارلوس مُونْسِيبَايْسْ الظاهرة بدقة: الرجعية هي- إحياء الغريب في اللغة، وما عفا عليه الزمن، واستمرار هذا النوع الأدبي- هيمنة الشكل على المحتوى. الرجعية هو ذاك الأسلوب المحمول إلى مطافه الأخير، المدفوع بحماس زائد. الرجعية هي الشرارة الأخيرة، من حيث الحساسية، واستعارة الحياة كمسرح (...) الرجعية هو حب ما هو غير طبيعي، والمصطنع والمبالغ فيه (...) الرجعية هي حماسة تيار المتكلّفة والشهوانية المبالغ فيها. الرجعية هي تثمين الابتذال. الرجعية هي إدخال معيار جديد: المصطنع كمثل أعلى. الرجعية هي عبادة الأشكال المحدودة للباروكو، والمجسدة في الهذيان، والتي تولد، حتماً، المحاكاة الهزلية الخاصة بها. الرجعية هي رقم ذو فرص هائلة هو (...) ذلك السيئ للغاية ويظهر على أنه جيد.
7 أما غِيّيرْمُو سُوكْرِي، على الأقل منذ 1985، فقد لاحظ هذه الظاهرة. وقد كتب: "لم يحدث أبداً أن كانت لدينا كلمات بهذا الحجم ورغم ذلك، نحس أنه تنقصنا الكلمات. فإذا بدا أن الملتبس مهيمن على حقبتنا، فإن واحدة من أعراضه هي انتشار الألفاظ: تضخم اللغة التي لم تعد تقدر على إخفاء افتقار آخر، روحي، أعمق". ويوضح أن الشعر الإسبانوأمريكي الحالي يتميز بـ"تلاعب لفظي كبير وباذخ صعب أكثر فأكثر: ما عاد هناك تمويه في المسرح".
ما سبق يبدو كأنه يقيم علاقة بين الهوية مع طريقة تحديد تيار المتكلّفة كأسلوب تاريخي. يفسر هيلموت هاتزفيلد الأمر على النحو التالي: "يقال عن أسلوب المتكلفة: التخيل المزيف؛ وقالب لا قلب؛ وقناع بدل وجه […] يفسر تيار المتكلفة على أنه بلاغة ألعاب نارية صناعية، وتشوهات تشدّقية، وتجنب ما هو حاسم وما هو مأساوي، مع نوع من قصر نظر وبراعة فنية فائقة واضحة في التلاعب بالأشكال التقليدية". ويضيف: "الافتقار إلى الإلهام الفكراني (الأيديولوجي) الداخلي الذي يعطيه معنى".
يتميز تيار المتكلفة أيضاً، وفقاً لـ هاتزفيلد: "بالافتقار إلى النظام، والتناسب والوحدة. فاللغة لا تعبر عن أفكار وإنما تدّعي معنى للأشكال؛ فيها تشويه هنا وهناك، فلا توجه ولا اتجاه نحو غاية أخرى غير سطوع ذكاء الفنان".
8 أول عنصر لما بعد الحداثة المرتبط بروح الباروكو هو فقدانها الفكرة الموحدة للتاريخ، والإيمان بالروايات العظمى، وظهور عدة رؤى أخرى موازية، بما في ذلك شرعية؛ تولد التّنوع، وتعدد وجهات نظر العالم، والانتظارات. ما هو باروكي يكمن ربما في فقدان المركز ومراكمة العناصر، مراكمة رؤى مختلفة.
من ناحية أخرى، يقول كالابريسي إن "انبعاث شعرية الباروكو الجديد كان من انتشار وسائل الاتصال الجماهيرية". على هذا المنوال وفي إشارة إلى ما بعد الحداثة، يعلق جياني فاتيمو أن" أ) في ولادة مجتمع ما بعد حداثي تلعب "وسائل الإعلام الجماهيرية" دورًا كبيراً؛ ب) أن هذه الأخيرة لا تميز مجتمعاً ما على أنه مجتمع "شفاف"، أكثر وعياً بنفسه، أكثر "تنوراً"، بل على أنه مجتمع أكثر تعقيداً، و بما في ذلك فوضوياً".
9 وفقاً لهاتزفيلد، يتعلق الأمر بإحساس جديد يطرح نفسه من جديد "القلق ومشاكل الإنسان الأبدية، وفي المقام الأول، المتعلقة بخلاصه، ومسؤوليته وبؤسه، وحدسه المأساوي لما هو إنساني ملموس". هذا الباروكو الخالص "يقدر الشدة المأساوية الداخلية، والأزمة، والقلق". ويضيف:" الباروكو الحقيقي يحوي صراعاً نفسياً حقيقياً، ذوقاً منقحاً في التعبير".
10 مجرد التفكير في الليبيرالية الجديدة وفي كيف أن الموضوع عاجز على فعل أي شيء أمام الأنموذج الاقتصادي، قاهر منهج الكاتدرائيات العظمى. والإنسان لعله جزء ضئيل ضمن كل هذه الأشياء. من جهة أخرى، في الشعر، يترجم هذا الجانب إلى ظرفية نصية: اختفاء وغَمْصُ "أنا" الشعر الغنائي.
فريدريك جيمسون، أبرز نقاد التيار التّصوري، كتب أن "نهاية الأنانية البرجوازية، أو الميحاد (عنصر لا يقبل التجزئة)، يحمل في طياته مما لا شك فيه نهاية الأمراض النفسية لهذه الأنا (التي أطلق عليها أُفولُ العاطفة). لكن يعني نهاية عدة أشياء أخرى: منها على سبيل المثال الأسلوب كشيء فريد وشخصي، ونهاية اللّمسات الفردية والمُميِّزة (المرموز لها بالهيمنة وليدة الإعادة الآلية للإنتاج)".
11 تتميز المرحلة "ب" لكوندراتييفْ ب: "تأخر نمو الإنتاج ومن المحتمل انخفاض الإنتاج العالمي بالنسبة للفرد الواحد: ارتفاع معدل بطالة الموظفين النشطين؛ ونزوح نسبي لنقاط الاستفادة، والنشاط الإنتاجي للأرباح الناتجة عن التلاعبات المالية؛ وارتفاع مديونية الدولة؛ وعودة الصناعات "التقليدية" إلى المناطق ذات الأجور المتدنية؛ وزيادة الإنفاق العسكري، مع التبرير على أنه ليس ذا طبيعة عسكرية؛ وانخفاض الأجر الحقيقي للاقتصاد الرسمي؛ وتوسع الاقتصاد غير الرسمي؛ وتراجع إنتاج المواد الغذائية منخفضة التكلفة؛ وتزايد "تجريم" الهجرة".
الجزء الأول من الدراسة
الجزء الثاني من الدراسة
* Alí Calderón شاعر وناقد وأستاذ جامعي مكسيكي، من مواليد 1982.
** ترجمة عن الإسبانية محسن بندعموش
اقرأ أيضاً: كأنْ تُدني وجهك من وردة مريضة