الشعر مُترجماً: من الشاهنامة إلى بورخيس

09 اغسطس 2015
الشاعر الأميركي والت ويتمان (صورة من الانترنت)
+ الخط -
ظلّ العرب يعتقدون أنّ "فضيلة الشعر مقصورةٌ عليهم"، والتعبير للجاحظ، حتى جاءت الترجمة. فاكتشفوا أن الشعر مُمكنٌ أيضاً وموجود في لغات الآخرين. كان أول عمل شعري مُهم تُرجِم إلى العربية هو ملحمة الملوك "الشاهنامة"، لأبي القاسم الفردوسي الذي ترجمه البُنداري في القرن العاشر الهجري عن الفارسية، قروناً قبل أن يُصدر سليمان البستاني ترجمته لإلياذة هوميروس. وبسبب الدور الحاسم لهاتين الترجمتين في التحوّلات التي عرفتها القصيدة العربية، يمكن بدون تردّد اعتبار الترجمة أول فجوة تسرّبت منها رياح التجديد إلى خيمة الشعر العربي.

وعَبْر الترجمة دائماً تأثر في مستهل القرن العشرين شعراء اهتموا بالرومانسية الغربية، وانخرطوا في ثورة شعرية أخرجت الشعر العربي من دائرة الأغراض من مديح ورثاء وغزل إلى عالم الذات وأسرارها والوجود وخباياه.

بل حتى المآزق التي سقط فيها الشعر العربي الحديث في ما بعد، تورّط فيها بسبب أخطاء الترجمة. هكذا ومنذ أن استعمل أمين الريحاني مصطلح "الشعر المنثور" سنة 1905 قائلاً بأنه يكتب الشعر المنثور على طريقة "والت ويتمان" ـ والحال أن ويتمان كان يكتب "الشعر الحر" ـ ونحن نتخبّط في فخّ المصطلحات ليستمر هذا الإشكال مطروحاً حتى اليوم مع قصيدة النثر التي يفضّل شربل داغر مثلاً ترجمتها بـ"القصيدة بالنثر". إذ لم يتأثر روّاد هذا النمط الشعري بشعراء وقصائد كما حصل مع الريحاني وجبران ورفاقهما، وإنما بترجمة نُتَفٍ من كتاب نقدي هو كتاب سوزان برنار (قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا).

حين ترجم أدونيس سان جون بيرس كان يتلمّسُ عبر هذه الترجمة أفقه الشعري الخاص. وإذ ترجم محمد بنيس "رمية نرد" لستيفان مالارميه متأخّراً، اكتشفنا أن هذا العمل الذي يعتبره بنيس "معلَّقة العصر الحديث" كان النّصَ الغائب لقصيدته البصرية، وكذا لبيان الكتابة الذي أصدره سنة 1980. ثم توالت الترجمات وتوالى من خلالها تفاعل القصيدة العربية الحديثة مع تجارب سابقة من مختلف الجغرافيات الشعرية العالمية. هكذا أثّرت نصوص السرياليين في عبد القادر الجنابي ومن والاه في "رغبته الإباحية". كما تصدّى أكثر من شاعر عربي، من بينهم سعدي يوسف ورفعت سلام، لترجمة يانيس ريتسوس إلى لغة الضاد، فكان أن بدأ الشعراء العرب يهرِّبون قصائدهم التي أنهكتها الشعارات والقضايا الكبرى باتجاه شعرية جديدة تحتفي باليومي وتفاصيله الصغيرة، وذلك بإيعاز من ريتسوس وقصيدته.

ثم ترجم كاظم جهاد ريلكه ورامبو والكوميديا الإلهية لدانتي. وترجم المغربي المهدي أخريف الأعمال الكاملة لفرناندو بيسوا حتى ارتبط اسمُه باسم بيسوا وأنداده أكثر ممّا ارتبط بمنجزه الشعري الخاص.

وإذا كان "أخريف" شاعراً مغربياً معروفاً، فإن مغربياً آخر هو "حسن حلمي" اشتهر بترجماته الباذخة للشعر دون أن يُعلَم له شعرٌ منشور. هكذا نقل حلمي إلى العربية مختارات من الشعر الأميركي المعاصر، وترجم مختارات شعرية لريلكه، وأخرى لهولدرلين، وقصائد مختارة لوليم بتلر ييتس، ثم لبورخيس. كما ترجم "زواج الجنة والجحيم" لوليم بليك، قبل أن يفاجئنا أخيراً بتصدّيه لـ"أناشيد" إزرا باوند، حيث أصدر مختارات من الأناشيد عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة في أكثر من 360 صفحة.

إنّ حاجة بعض الشعراء الشباب اليوم إلى الاقتراب من الشعريات العالمية عبر آلية الترجمة الأدبية تبقى ماسَّة، في زمن صار الكثير من شعرائه يكتفون بالفيسبوك وبما تتيحه لوغاريتمات الترجمة الآلية في مجرّته من معانٍ تقريبية وصياغاتٍ ملتبسة لا تغذّي سوى ضحالة نصوصهم. شعراء متهافتون على النشر وعلى ما يستتبعه من تربيت إلكتروني على الحيطان، متناسين أن مجرّة الشعر أوسع وأكثر رحابة من شبكة زرقاء تسبح في مدار افتراضي.

(كاتب وشاعر مغربي)
دلالات
المساهمون