الشعر في حضرة الحاكم

18 يناير 2017
+ الخط -
لو قُدّر لي أن أحضر المؤتمر الصحافي للرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، لسألته عن سر عداء الجمهوريين للشعر وللشعراء، وربما لن أحظى بإجابةٍ شافية، أو قد ينالني تقريعٌ منه كالذي ناله مراسل "سي إن إن". وعلى أية حال، وفي حدود علمي، فإن أحداً من الشعراء لن يحضر حفل تنصيب ترامب رئيساً، الذي ستكون أولوية الحضور فيه، إلى جانب رجال الدولة والدبلوماسيين، لرجال الأعمال الذين تخرّج ترامب على أيديهم. وواقع الحال أن طقس "الشعر في حضرة الحاكم" تقليد ابتكره الديمقراطيون في ستينيات القرن الراحل، ولم يعطه الجمهوريون اهتماماً، ففي حفل تنصيب جون كيندي، أنشد روبرت فروست قصيدةً زعم فيها أن أرض أميركا "كانت لنا قبل مائة عام وحتى قبل أن نكون أبناءها". وفي الولاية الأولى لبيل كلينتون، أنشدت مايا أنجلو قصيدة "نبض الصباح" التي تغنّت فيها بالحلم الأميركي، وخاطبت المهاجرين الذين قدِموا إلى الولايات المتحدة أن يصلّوا من أجل هذا الحلم، وأن يتحلّوا بالشجاعة، ويطلقوا تحية الصباح لوطنهم الجديد. وفي ولايته الثانية، كانت قصيدة ستانلي ميلر وليامز شاعر حفل التنصيب "عن التاريخ والأمل" مشبعةً بالدلالات الصريحة، وكذا الإيحاءات عن تاريخ أميركا (هل لأميركا تاريخ حقا؟)، وعن الأميركيين الذين "حفظوه عن ظهر قلب، كيف ولدت أميركا، وكيف كانوا وأين، وقد قالوا كلماتهم في صمت، ورووا حكاياتهم، وأنشدوا أغنياتهم القديمة، ووضعوا كل هذا التاريخ في أيدي أطفالهم الذين سيدركون كم هي كبيرةٌ هذه الهدية التي لن ينسوها"!.
باراك أوباما آخر رئيس "ديمقراطي" اختار في حفل تنصيبه إليزابيث ألكسندر لتكون شاعرته، ولم تكن معروفة على نطاق واسع حتى عند مواطنيها الأميركيين، وقد تغنت، هي الأخرى، بأمجاد أميركا وتاريخها، "لنغنِ بأسماء من ماتوا كي نجيء إلى هنا، هم الذين قادوا عربات القطار، وأقاموا الجسور، وقطفوا ثمار القطن، وبنوا حجراً فوق حجر الصروح المتلألئة بالضوء، فلنغنِ تمجيداً لكفاحهم، ولكل علامة نقشتها يد عاملة".
استوقفني في قصائد التنصيب أنها لم تحوِ تمجيداً للرئيس الجديد، أو حتى إشارة مباشرة أو غير مباشرة له، وفي ذهني ما عهدناه، نحن العرب، في أشعارنا حين نقف في حضرة الحاكم في مناسباتٍ كهذه، لنغدق عليه كل ما يتراءى لنا من صفاتٍ تميّزه عنا وعن بقية البشر. المتنبي وصف سيف الدولة بأنه "حسام الملك ولواء الدين وأبو الهيجا وشمس الزمان وبدره". والجواهري خاطب الملك الراحل، فيصل الثاني، في عيد مولده: "يا نبتة الوادي، ونغمة عطره، يا نبعة الثجاج في اليوم الصدي"، إلا أن الجواهري راجع موقفه فيما بعد، وأسقط القصيدة من دواوينه، كما وصف الحسين ملك الأردن الراحل في وقفة له أمامه بأنه "يرقى الجبال مصاعباً ترقى به، ويعاف للمتحدّرين سهولا"، وهي نسخة منقحةٌ عن قصيدةٍ له في مديح الوصي عبد الإله أسقطها، هي الأخرى، من دواوينه، خاطبه فيها: "عبد الإله وليس عابا أن أرى عظم المقام مطولاً فأطيلا، قدت السفينة حين شق مقادها، وتطلبت ربانها المسؤولا". وقال في عبد الكريم قاسم: "عبد الكريم وفي العراق خصاصة ليد، وقد كنت الكريم المحسنا، أسديتها بيضاء لا متنفجا بالنعمة الكبرى ولا متمننا". وفي حافظ الأسد "يميناً إنك الأسد، له عن غاية رصد". هنا يكون الجواهري الشاعر الوحيد الذي مدح معظم الرؤساء والملوك العرب الذين مرّوا به، ومرّ بهم.
ومن جانب آخر، يكون صدام حسين أكثر حاكمٍ في عصرنا حصل على قصائد مديح وإطراء قيلت في حضرته، وهو الذي عرف بغوايته في عقد مجالس يتبارى فيها الشعراء في الثناء على شخصيته، وإطراء محاسنه. وكان يغدق عليهم بالمكافآت المالية والسيارات، على أنه، في أواخر أيام حكمه، استدرك مسألة اقتصار القصائد على مديحه، والإشادة به، فطلب من الشعراء أن يكتبوا قصائد في الغزل والحب. وبالفعل، أنشد بعض الشعراء، في حضرته، قصائد في هذا الضرب من الشعر، وقد رأى عديدون من شعراء تلك المرحلة في طقس الشعر هذا حالة تملق وانتهازية لم يرتضوها لأنفسهم، فنأوا عنها بحجةٍ أو بأخرى، وتنصّل بعضهم من قصائدهم في زمن لاحق.
وإنصافا، لم يجرّب شعراء البيت الأبيض خطيئة تمجيد الحاكم، ووصفه بما يميّزه عن البشر، لأن شعر المناسبات، كما تقول شاعرة أوباما، إليزابيث ألكسندر "مناقض لطبيعة الشاعر، وعليه إذا ما اختاره أن يستخدم لغةً يقظةً قادرةً على أن توظف النص لرؤية الأحوال الماثلة في المجتمع ولتقييمها"، وهذا ما فعلته هي.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"