الشعر الشعبي في بلد الجواهري: سِجلّ اجتياح

11 سبتمبر 2014
محمد إحصائي/ إيران
+ الخط -

قد يبدو مستغرباً أن أجيالاً شابة في العراق، اليوم، لا تكاد تحفظ قصيدة واحدة للرصافي والجواهري أو السياب نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي، وغيرهم من أعلام الشعر العربي المعاصر، رغم ما لهؤلاء من حضور طليعي، محلي وعربي.

ومع أن تلك الأجيال تعرّفت إلى تجارب شعرية كهذه في المدارس على الأقل، إلا أن الشباب لا يكادون يستعيدون من الشعر العراقي، في جلساتهم، إلا أشعاراً لعريان السيد خلف وكاظم إسماعيل الكاطع وعزيز السماوي وغيرهم من شعراء العامية في بلد الرافدين.

ولا يختلف اثنان على تراجع حضور اللغة العربية في حياة الناطقين بها في العقود الأخيرة، أمام زحف العاميات واللغات الأجنبية في البلدان العربية. ولربما كان للاضطرابات السياسية والنكسات الحضارية التي يمر بها العرب دور رئيسي في ذلك، كما يرى علماء الاجتماع، الذين يعتبرون أن تطور اللغة واستمرار تأثيرها مرهون بنهضة أبنائها واستجابتهم للتحديات الحضارية.

لكن المفاجئ في الموضوع هو أن تتقهقر العربية في أحد أهم حصونها: الشعر الذي احتضنها وبشّر بها لقرون طويلة، بعد أن بدأ ما يسمى بالشعر العامي أو النبطي يسجّل حضوراً لافتاً في وسائل الإعلام العربية والمحافل الثقافية، حتى زاحم الفصيح وكاد أن يقصيه عن تصدر قضايا المجتمع والتعبير عن مشاعرهم ورؤاهم، كما كان في الماضي القريب.

ورغم أن العراق يعدّ، منذ ما قبل الإسلام حتى العصر الحديث، مقصد الشعراء وأرضاً لنشوء حركات الشعر الطليعية ومدارس اللغة والنحو والبلاغة، إلا أن الشعر الشعبي، خصوصاً منذ عقدين، يسجل نقاطاً على حساب الفصيح. وتكاد القصيدة العامية تكتسح المنتديات والملتقيات الأدبية الخاصة والعامة، ما "يضطر" كثيراً من الشعراء إلى كتابته والالتفات إليه على حساب الفصحى. وإن كان معروفاً أن بعض شعراء العراق البارزين، كمظفر النواب، لديهم قصائد بالعامية تنافس ما كتبوه من شعر فصيح؛ ولكن هذه الظاهرة مختلفة عما يجري اليوم.

هذه الظاهرة أثارت، ولا تزال، الكثير من الجدل حول أسبابها ومآلاتها، وسط تخوفات على مستقبل الشعر والثقافة العراقية المعاصرة. الشاعر فارس العبيدي يقول إن التعليم المدرسي لم يعد مهتماً بتدريس الأجيال اللغة العربية والاعتزاز بها كما في السابق، إذ يخضع التعليم اليوم، بحسبه، "إلى أجندات سياسية لديها مشكلة مع الحضارة والموروثات الأدبية والفنية العربية، ما أدّى لانحطاط أذواق الأجيال الجديدة وانقطاعها عن تراث الأجداد الأدبي".

ويضيف العبيدي أن جزءاً من الخلل يعود كذلك إلى التوجهات الرسمية للحكومات العربية التي سلكت طريق عسكرة المجتمعات وتثبيت نظمها السياسية بالقهر والاستبداد على حساب دعم التوجهات العلمية والثقافية والفنية.

لكن الشاعر الشعبي أحمد الدليمي يختلف مع ما يقال عن أسباب انتشار الشعر العامي، بسبب تراجع حضور الفصحى. ويرى الدليمي أن الشعر الشعبي يستمد مكانته اليوم من قدرته على الاتصال بمختلف المستويات الثقافية للمواطنين ومخاطبتها، مشيراً إلى أن كثيراً من متذوقيه ومتلقيه "هم من المثقفين، بخلاف ما يقال عن ارتباطه بالبسطاء ومحدودي الثقافة".

ويرى الدليمي إلى أن قرب الصور والاستعارات في الشعر الشعبي من عامة الناس ولغتها المحكية ومعاناتها اليومية، تجعل المتلقي يميل إليها أكثر من الشعر الفصيح الذي بات كثيرون يعتقدون أنه مرتبط بعيد عن الشارع ومزاجه.

ويرفض الدليمي وصف الشعر الشعبي بالسطحي وأنه ليس أكثر من كلام عامّي موزون؛ إذ "يحتوي على قواعد خاصة وصور شعرية متميزة، كما أنه يمثل تنوّعات الشعب العراقي ولهجاته وتنتشر أطواره وأوزانه المختلفة على امتداد جغرافيا البلاد، مثل "الزهيري" الذي يشتهر في وسط العراق وغربه والـ"الأبوذية" السائدة في جنوبه".

ويبدو واضحاً دور التحولات التي مر بها العراق في العقدين الأخيرين ومزّقت نسيجه الاجتماعي والثقافي؛ في ظهور أنماط لم تكن معروفة في السياقات الثقافية السائدة منذ نشأة الدولة العراقية الحديثة، غذّتها هجرة واسعة لأبناء الريف إلى المدن بكل ما حملته تلك الهجرة من تحوّلات قيمية إلى جانب التشظي السياسي الحاصل، إذ يبدو انتشار أنماط الشعر الشعبي وتراجع التجربة الشعرية الطليعية من تمظهراتها.

الباحث وأستاذ اللغة العربية في "الجامعة العراقية" أوس الغريري، يعتقد أن تراجع الفصيح لمصلحة العامّي يرجع إلى أن الأزمات المتتالية التي يعيشها العراق "توجب على المرء أن يفكر في المقام الأول بالبقاء حيّاً، فيصبح بالتالي حب المعرفة والاهتمام بالثقافة مطلباً ثانوياً بالنسبة له". ويرى الغريري أن جزءاً من حل هذه المشكلة "يكمن في إنشاء مراكز مهتمة بتطوير اللغة العربية ومواكبة العولمة وتعقيداتها، وإعادة إحياء دور المجامع اللغوية العربية التي غابت تماماً".

وتبقى تساؤلات كثيرة، بإجابات معلقة، حول ما ستقدمه هيمنة اللهجات العامية للثقافة العربية، لا سيما وأن هيمنتها ارتبطت دائماً بحالات الانكسار والتراجع الحضاري والتشرذم الذي يضرب العالم العربي؛ وكيف سيكون شكل الهوية العربية خلال العقود القادمة في خضم ما تمر به المنطقة من اضطرابات وعيش على رمال متحركة.

المساهمون