01 فبراير 2019
الشعب ضد الديمقراطية
أين مكان الديمقراطية، في البرلمان أم في الشارع؟ في سياق هذا المعنى، عنونت قناة فرنسية برنامجها الحواري الإثنين الماضي. يكاد السؤال الذكي يكثف جزءا كبيرا من النقاش السياسي الذي تطرحه حركة السترات الصفراء، منذ قدومها العاصف إلى المشهد العام، على خلفية الاحتجاج المتعلق برفع الضريبة على المحروقات.
تكمن في عمق السؤال مفارقة الديمقراطية وتناقضاتها، ذلك أن الاحتجاج يضع الحكومات والأصل الانتخابي والشرعية التمثيلية في مواجهة خطابٍ يعتمدٍ، هو الآخر، مقومات السيادة الشعبية نفسها، ويتأسس على مفردات الحديث باسم الشعب، مستقويا بميزان قوىً يملك القدرة على تعبئة كتلة حرجة، تعطي المصداقية لمقولة إرادة الشعب!
تتجلى المفارقة التي قد تصل إلى حدود التناقض في توترٍ معلن بين الاحتجاج والتمثيل، بين الشارع والمؤسسات، بين العمل الجماعي والحركات الاجتماعية، وبين الانتخابات والأحزاب السياسية. بل لعله بين الشعب والديمقراطية، وإن كان بعضهم يفضل اليوم الحديث عن ديمقراطية احتجاجية في مواجهة ديمقراطية انتخابية، حيث الديمقراطية الاحتجاجية مسلك من مسالك التعبير عن المواطنة والحقوق، ومنفذ من منافذ إحياء السياسة نفسها من تكلس المساطر وجمود النخب، وهو ما يسمح بإعادة التوازن إلى الحياة العامة التي لم تعد مؤسساتها قادرةً على استيعاب الطلب الاجتماعي، والطلب على الكرامة والاعتراف.
قد يحيل عنوان البرنامج التلفزي كذلك، هنا في المعنى نفسه، الى كتاب حديث، يثير اهتماما كثيرا، "الشعب ضد الديمقراطية" للباحث الأميركي ذي الأصل البولندي، ياشا مونك، الذي يناقش تراجع الليبرالية أمام زحف الشعبوية، ويذكّرنا بكتابٍ بالعنوان نفسه، صدر قبل أعوام، لعالم السياسة الفرنسي، غي هيرمي، كان قد خصصه لأوجه أخرى من أزمات الديمقراطية.
العودة هنا إلى مايو/ أيار 1968، في سياق بناء المقارنات ومحاولات الفهم والتفسير، تبقى غير قابلة للتجاوز ، ذلك أنه لم يسبق أن عاشت فرنسا فصولا من هذا الانبثاق القوي لحركات الاحتجاج، منذ ذلك التاريخ الاستثنائي في ذاكرتها السياسية والثقافية، على الرغم من الحيوية الخاصة التي تعرفها الساحة الاجتماعية الفرنسية، لأسباب تاريخية عديدة. وعلى الرغم من حدة التوتر الذي عرفه الشارع، سواء خلال العام 2005، في سياق مواجهة سياسات مراجعة المنظومة الاجتماعية، أو خلال بعض "انتفاضات" الضواحي أو الاحتجاجات التلاميذية.
لكن من دون هذه القدرة على التعبئة الشعبية، لا تبدو المقارنة مغريةً على صعيد المضمون الثقافي والأيديولوجي، وهو ما يعني أن ثمة فروقا شاسعة بين الحدثين، لعل أحدها ما يبدو انزياحا لسياسات الشارع التي صارت اليوم بعيدةً عن يسار نهاية الستينيات وأحلامه الجامحة، قريبةً من يمين الهويات والقوميات المنغلقة.
التفكير في حراك السترات الصفراء لا يمكنه كذلك القفز على مجمل التحولات التي يعرفها الحقل السياسي في البلدان الغربية، والمتميز عموما بانفجار ثنائية اليمين واليسار، وتصاعد الشعبويات اليمينية، وانبثاق حركات سياسية ومجتمعية جديدة، وتحول مضمون الصراع السياسي من دائرة السياسات الاجتماعية الى سجل القيم والهوية والثقافة، وهيمنة الأبعاد الجديدة لسياسات الاعتراف محفزا للالتزام السياسي والتعبيرات الجديدة للمواطنة.
نحن أمام حركة احتجاجية بدون قيادة واضحة، وبلا رموز. تستعير من خطابات سياسية رائجة عداءً حادّا للنخب والمؤسسات الحاكمة، وتمنحها وسائط التواصل الاجتماعي فضاءً للتعبئة والتقاسم وبناء المعنى المشترك، وتحمل في حضورها الميداني مزيجا من عفوية رد الفعل الشعبي ومن "احترافية" التنظيمات اليسارية أو اليمينية المتطرّفة.
وهي بذلك، عدا قدرتها المثيرة على الحشد وخلخلة المشهد العام، تنتمي إلى الخطاطة النموذجية للحركات الاحتجاجية المنتمية إلى زمننا الراهن، مع فارق جوهري يتمثل في ميل واضح إلى العنف، يبدو، في حالات معينة، مجرد انفلاتات فردية لعناصر من "المخرّبين" الذين عادة ما ينتهزون فرصة اللجوء إلى الشارع، للنيل من الممتلكات العامة ومن المكلفين بإنفاذ القانون، كما قد يبدو، في حالات أخرى، اختيارا واعيا لأطياف من الحركة، تراهن على استراتيجية استهدف الشرطة ورموز النظام، تفعيلا لأيديولوجيا "أنارشية" متكاملة، تنهض على عداء مطلق لفكرة الدولة والمؤسسات.
اختلفت استراتيجيات السياسيين باختلاف المواقع، وبتفاوت تقديرات الموقف، وتبعا كذلك لحالة التطور التي شهدتها الحركة في الميدان. لم تدم لحظة التجاهل الرسمي طويلا أمام الحجم الذي أخده الاحتجاج في موعده الأول، لكي يتطور بعدها بناء الموقف في اتجاهين: الأول يربط الحركة الاحتجاجية باستراتيجية التأزيم التي ينهجها اليمين الشعبوي. والثاني يعلن عدم رضوخه لابتزاز الشارع وتمسكه بشرعية القرارات المعلنة، ضمانا لهيبة المؤسسات وشرعية سياساتها، لكن استمرار الحراك سيفرض على الحكومة عناصر خطاب جديدة، تميز بين التعامل القضائي مع المخرّبين، وتنفتح، من جهةٍ أخرى، على الحوار والإنصات لمطالب المحتجين. ولجأت أحزاب المعارضة إلى رد فعل تقليدي، مستثمرة غليان الشارع لمزيد من الضغط على الحكومة، ولربح نقاط إضافية في فترة زمنية لا تخفي رهاناتها الانتخابية الحاسمة، حيث يحل في الربيع المقبل موعد الاقتراع الأوروبي.
هل نحن أمام انشطار جديد للديمقراطية الغربية التي باتت مهددة بانفجار زوجها المؤسس: الديمقراطية والليبرالية، والتحول الى ديمقراطيات بلا ليبرالية. وها هي اليوم تبدو مهدّدة بانفجار ثنائية الشارع والمؤسسات على نحو مشهدي، حيث الشعب في مواجهة الديمقراطية، والديمقراطية الاحتجاجية في مواجهة الديمقراطية التمثيلية، وهو ما يعني في نهاية التحليل: الديمقراطية في مواجهة نفسها.
تتجلى المفارقة التي قد تصل إلى حدود التناقض في توترٍ معلن بين الاحتجاج والتمثيل، بين الشارع والمؤسسات، بين العمل الجماعي والحركات الاجتماعية، وبين الانتخابات والأحزاب السياسية. بل لعله بين الشعب والديمقراطية، وإن كان بعضهم يفضل اليوم الحديث عن ديمقراطية احتجاجية في مواجهة ديمقراطية انتخابية، حيث الديمقراطية الاحتجاجية مسلك من مسالك التعبير عن المواطنة والحقوق، ومنفذ من منافذ إحياء السياسة نفسها من تكلس المساطر وجمود النخب، وهو ما يسمح بإعادة التوازن إلى الحياة العامة التي لم تعد مؤسساتها قادرةً على استيعاب الطلب الاجتماعي، والطلب على الكرامة والاعتراف.
قد يحيل عنوان البرنامج التلفزي كذلك، هنا في المعنى نفسه، الى كتاب حديث، يثير اهتماما كثيرا، "الشعب ضد الديمقراطية" للباحث الأميركي ذي الأصل البولندي، ياشا مونك، الذي يناقش تراجع الليبرالية أمام زحف الشعبوية، ويذكّرنا بكتابٍ بالعنوان نفسه، صدر قبل أعوام، لعالم السياسة الفرنسي، غي هيرمي، كان قد خصصه لأوجه أخرى من أزمات الديمقراطية.
العودة هنا إلى مايو/ أيار 1968، في سياق بناء المقارنات ومحاولات الفهم والتفسير، تبقى غير قابلة للتجاوز ، ذلك أنه لم يسبق أن عاشت فرنسا فصولا من هذا الانبثاق القوي لحركات الاحتجاج، منذ ذلك التاريخ الاستثنائي في ذاكرتها السياسية والثقافية، على الرغم من الحيوية الخاصة التي تعرفها الساحة الاجتماعية الفرنسية، لأسباب تاريخية عديدة. وعلى الرغم من حدة التوتر الذي عرفه الشارع، سواء خلال العام 2005، في سياق مواجهة سياسات مراجعة المنظومة الاجتماعية، أو خلال بعض "انتفاضات" الضواحي أو الاحتجاجات التلاميذية.
لكن من دون هذه القدرة على التعبئة الشعبية، لا تبدو المقارنة مغريةً على صعيد المضمون الثقافي والأيديولوجي، وهو ما يعني أن ثمة فروقا شاسعة بين الحدثين، لعل أحدها ما يبدو انزياحا لسياسات الشارع التي صارت اليوم بعيدةً عن يسار نهاية الستينيات وأحلامه الجامحة، قريبةً من يمين الهويات والقوميات المنغلقة.
التفكير في حراك السترات الصفراء لا يمكنه كذلك القفز على مجمل التحولات التي يعرفها الحقل السياسي في البلدان الغربية، والمتميز عموما بانفجار ثنائية اليمين واليسار، وتصاعد الشعبويات اليمينية، وانبثاق حركات سياسية ومجتمعية جديدة، وتحول مضمون الصراع السياسي من دائرة السياسات الاجتماعية الى سجل القيم والهوية والثقافة، وهيمنة الأبعاد الجديدة لسياسات الاعتراف محفزا للالتزام السياسي والتعبيرات الجديدة للمواطنة.
نحن أمام حركة احتجاجية بدون قيادة واضحة، وبلا رموز. تستعير من خطابات سياسية رائجة عداءً حادّا للنخب والمؤسسات الحاكمة، وتمنحها وسائط التواصل الاجتماعي فضاءً للتعبئة والتقاسم وبناء المعنى المشترك، وتحمل في حضورها الميداني مزيجا من عفوية رد الفعل الشعبي ومن "احترافية" التنظيمات اليسارية أو اليمينية المتطرّفة.
وهي بذلك، عدا قدرتها المثيرة على الحشد وخلخلة المشهد العام، تنتمي إلى الخطاطة النموذجية للحركات الاحتجاجية المنتمية إلى زمننا الراهن، مع فارق جوهري يتمثل في ميل واضح إلى العنف، يبدو، في حالات معينة، مجرد انفلاتات فردية لعناصر من "المخرّبين" الذين عادة ما ينتهزون فرصة اللجوء إلى الشارع، للنيل من الممتلكات العامة ومن المكلفين بإنفاذ القانون، كما قد يبدو، في حالات أخرى، اختيارا واعيا لأطياف من الحركة، تراهن على استراتيجية استهدف الشرطة ورموز النظام، تفعيلا لأيديولوجيا "أنارشية" متكاملة، تنهض على عداء مطلق لفكرة الدولة والمؤسسات.
اختلفت استراتيجيات السياسيين باختلاف المواقع، وبتفاوت تقديرات الموقف، وتبعا كذلك لحالة التطور التي شهدتها الحركة في الميدان. لم تدم لحظة التجاهل الرسمي طويلا أمام الحجم الذي أخده الاحتجاج في موعده الأول، لكي يتطور بعدها بناء الموقف في اتجاهين: الأول يربط الحركة الاحتجاجية باستراتيجية التأزيم التي ينهجها اليمين الشعبوي. والثاني يعلن عدم رضوخه لابتزاز الشارع وتمسكه بشرعية القرارات المعلنة، ضمانا لهيبة المؤسسات وشرعية سياساتها، لكن استمرار الحراك سيفرض على الحكومة عناصر خطاب جديدة، تميز بين التعامل القضائي مع المخرّبين، وتنفتح، من جهةٍ أخرى، على الحوار والإنصات لمطالب المحتجين. ولجأت أحزاب المعارضة إلى رد فعل تقليدي، مستثمرة غليان الشارع لمزيد من الضغط على الحكومة، ولربح نقاط إضافية في فترة زمنية لا تخفي رهاناتها الانتخابية الحاسمة، حيث يحل في الربيع المقبل موعد الاقتراع الأوروبي.
هل نحن أمام انشطار جديد للديمقراطية الغربية التي باتت مهددة بانفجار زوجها المؤسس: الديمقراطية والليبرالية، والتحول الى ديمقراطيات بلا ليبرالية. وها هي اليوم تبدو مهدّدة بانفجار ثنائية الشارع والمؤسسات على نحو مشهدي، حيث الشعب في مواجهة الديمقراطية، والديمقراطية الاحتجاجية في مواجهة الديمقراطية التمثيلية، وهو ما يعني في نهاية التحليل: الديمقراطية في مواجهة نفسها.