صدر هذا الكتاب قبل أيام من افتتاح معرض الكتاب الثامن عشر في بريشتينا في شهر حزيران 2016، ولم يكن من المستغرب أن يفوز بجائزة أحسن كتاب في نهاية المعرض نظراً لما يتمتّع به مؤلفه نهاد إسلامي من تقدير في صفوف أجيال من القراء من أيام يوغسلافيا السابقة وحتى كوسوفو الحالية. فقد كان من أوائل الصحافيين الذين التحقوا بتلفزيون بريشتينا أيام الأسود والأبيض ثم التحق بالجريدة الكوسوفية الرئيسية "ريلينديا"، التي أوفدته في مطلع سبعينات القرن الماضي مراسلاً لها في الشرق الأوسط فجاب تركيا وسورية ولبنان والأردن ومصر وغيرها، وعاش هناك أحداث المنطقة المهمة (أحداث أيلول في الأردن والحرب الأهلية في لبنان وغيرها) وكان من أوائل من دخل مخيم تل الزعتر ليوثق ما حدث فيه من مجازر.
وخلال إقامته في الشرق الأوسط التقى بأمراء حرب وزعماء وكتاب من الأتراك والعرب واليهود والأكراد، وحتى بعد عودته الى بلاده وتوليه وزارة الإعلام في كوسوفو لم ينقطع عن الشرق الأوسط، بل بقي حريصاً على استقبال كل الضيوف القادمين من هناك. وبعد حرب 1999 واستقلال كوسوفو وبناء الديمقراطية الجديدة انشغل في تجربة جديدة وهي مجلس الرقابة على المطبوعات، وهي منظمة غير حكومية ممولة من الاتحاد الأوروبي لتراقب موضوعية واستقلالية الصحف وعدم انجرارها إلى الابتزاز والتشهير.
ومع هذا يبقى اسم نهاد إسلامي مرتبطاً بذاكرة جيلين على الأقل بالشرق الأوسط والأحداث الجسام التي جرت فيه خلال الربع الأخير من القرن العشرين. ومع هذا الكتاب، الذي نشر فيه المؤلف مقالات مختارة كتبها على مدار أربعين سنة، يبدو الشرق الأوسط مختلفاً عما هو الآن. فقد كان الشرق الأوسط خلال وجود يوغسلافيا التيتوية يستأثر باهتمام واسع، وكانت الصحف اليوغسلافية المعروفة تتنافس على إيفاد مراسلين لها لتغطية أحداث الشرق الأوسط التي كانت تتمحور حول القضية الفلسطينية، بينما لم يعد الشرق االأوسط كذلك في صحافة هذه الأيام. فلم تعد هناك صحف توفد مراسلين ولم تعد صورة الفلسطينيين واسرائيل كما كانت، بل أن "داعش" سيطرت على المشهد ليغطي إرهابها على أي أمر آخر.
ومن هنا يجذب كتاب إسلامي "عنوان في بوخارست" وهو الثاني له عن الشرق الأوسط بعد "فندق بيروت" 2014، القرّاء المخضرمين الذين يستذكرون الشرق الأوسط كما كان، ينقله بتفاصيله السياسية والاجتماعية والثقافية نهاد اسلامي.
في هذا الكتاب لدينا ضمن اللقاءات مع الشخصيات المعروفة في ذلك الوقت ما يستحق التوقف عند ثلاثة أسماء كبيرة: نجيب محفوظ العربي، وجلال طالباني الكردي وسيمون فيزنتال اليهودي المعروف بـ "صياد النازيين"، حيث أن كل واحد منهم يطرح رؤيته الخاصة في حديثه مع كاتب ألباني، أي ليس مع كاتب من "الجهة المعادية".
في لقائه مع نجيب محفوظ، الذي نشر عام 1994، كان محفوظ قد أصبح اسماً معروفاً في أوروبا بعد فوزه بجائزة نوبل مع أنه كان معروفاً في يوغسلافيا التيتوية التي زارها والتقى في بلغراد مع الروائي المعروف ايفو آندريتش. ومن الطبيعي أن تكون ضمن الأسئلة ما يتعلّق بالألبان، وبالتحديد باهتمام محفوظ في ثلاثيته بأجواء القاهرة خلال الحكم الملكي لأحفاد محمد علي باشا الألباني، وفي جوابه على ذلك يكشف محفوظ عن هواه، إذ يمتدح محمد علي ويعتبره "صاحب رؤية متنوّر اختار لمصر سبيلاً عصرياً للتطور مع كونه أمياً، وكانت رغبته ورغبة أحفاده تحديث مصر وقاموا لأجل ذلك بأعمال ضخمة، وهو ما يقدّره لهم الشعب المصري".
وعلى اعتبار أن اللقاء مع محفوظ كان في خضم مأساة البوسنة 1992-1995 فقد كان هناك سؤال عن معايشته لتلك الحرب المأساوية، وفي جوابه على ذلك عقد محفوظ مقارنة بين حرب الكويت وحرب البوسنة، إذ أن المجتمع الدولي هبّ بقرارات من الأمم المتحدة للتدخل العسكري لأجل تحرير الكويت بينما "ترك البوسنة تعاني وتضحي دون شعور بالألم"، وهو مايمكن مقارنته مع موقف المجتمع الدولي الآن إزاء ما يجري في سورية.
وبما أن محفوظ كان يعرف الروائي الصربي ايفو أندريتش، حيث طبعت في القاهرة أشهر رواياته "جسر على نهر درينا" في 1959 وحظي محفوظ باللقاء معه خلال زيارته لبلغراد خلال سنوات العسل بين يوغسلافيا تيتو ومصر عبد الناصر، فقد كان هناك سؤال حول الرسالة التي يمكن أن يوجهها الآن إلى آندريتش في خضم حرب البوسنة. كان رد محفوظ في غاية الحكمة: "سأطلب منه أن يكتب عن فظاعات الصرب بحقّ السكان الأبرياء كما كتب عن فظاعات العثمانيين في البوسنة".
وفي اللقاء الآخر مع جلال طالباني، الذي نشر في 1991، لدينا جولة في الوضع العراقي ورؤية طالباني عن مستقبل الأكراد في المنطقة. وكان إسلامي قد تعرّف على طالباني في دمشق عام 1976 حين كان لاجئاً سياسياً، ولكن اللقاء المذكور كان في تركيا عام 1991 بعدما تغيرت الصورة وأصبح طالباني شخصية مركزية ضمن الدور المتصاعد للأكراد في المنطقة.
في ذلك الحين كانت رؤية طالباني مختلفة. كان يرى الحل في الحكم الذاتي للأكراد في العراق، ضمن عراق ديمقراطي يكون لفائدة الجميع وليس للأكراد فقط، كما أنه كان يرى أن الحل للأكراد في المنطقة يكمن في تمكينهم من حقوقهم الثقافية وليس في توحيدهم بدولة كردية كبرى. وفي هذا السياق كان يشيد بسياسة رئيس الحكومة التركية آنذاك تورغوت أوزال، الذي بدأ فعلاً في الانفتاح على مطالب الأكراد في التعبير عن هويتهم الثقافية، ويصل طالباني إلى أن "الهدف يكمن في الوحدة الروحية والثقافية للأكراد" وأن "حرية الأكراد لن تمس حريات أي شعب آخر في المنطقة".
ويكشف طالباني هنا لأول مرة عن التشابه بين الأكراد في الشرق الأوسط والألبان في البلقان، حيث أن كل شعب كُتب عليه أن يعيش في عدة دول مجاورة، ولذلك يقول طالباني عن الأكراد إنهم "ألبان الشرق الأوسط" وعن الألبان إنهم "أكراد البلقان"، ويطلق نبوءة تقول "يحدوني الأمل في أننا (نحن وأنتم) سنتمكن أخيراً من الوصول إلى أهدافنا العادلة". وبالفعل إن الصورة الجديدة التي تشكلت على الأرض بعد حرب كوسوفو 1999 وحرب العراق 2003 حوّلت الأكراد والألبان إلى لاعبين أساسيين في الشرق الأوسط والبلقان بدعم من الولايات المتحدة.
أما في المقالة الأخيرة "ما أشبه اليوم بالبارحة"، وهي الوحيدة التي كُتبت ونُشرت في نوفمبر 2015، فيمكن أن توصف أنها نتيجة "الشرق الأوسط الجديد". فقد وجد نهاد اسلامي نفسه عشية حرب 1999 في معسكر لللاجئين على الحدود الكوسوفية- المكدونية، وتذكر هناك مأساة الفلسطينيين في الهجرة والتهجير من فلسطين الى الأردن، ومن الأردن إلى لبنان وسورية. ولكنه كان يعتقد أنه مع حرب 1999 وحرب 2003 و"نشر الديمقراطية" في الشرق الأوسط، ستستقر الأوطان والأرواح، إلا أن ما حدث مع "الربيع العربي" وإعلان "دولة الخلافة في العراق والشام" فجّر من جديد أمواج الهجرة وجعل المؤلف يعايش ذلك بنفسه مع أمواج اللاجئين من سورية والعراق الذين كانوا يمرون على كوسوفو في طريقهم إلى ألمانيا، وبالتحديد في قرية ميراتوفتس الألبانية التي لم يتبق فيها دجاجة لم تذبح لأجل "الأخوة" القادمين من دروب المعاناة والمتوجهين إلى المجهول.
كتاب نهاد إسلامي يحرك بالفعل مشاعر الألبان عن الشرق الأوسط الذي كانوا يعرفونه بشكل جيد من خلال كتابات إسلامي في الربع الأخير للقرن العشرين، ولكنهم أصبحوا متخوفين منه خلال السنوات الأخيرة بسبب "داعش" وأخواتها.
(أكاديمي كوسوفي/ سوري)