بعد قتل أحد عناصر الشرطة الأميركية جورج فلويد في الخامس والعشرين من مايو/ أيار، انطلقت مسيرات هائلة في كل أنحاء الولايات المُتحدة، مُنددة بالجريمة، ومطالبة بحل جهاز الشرطة ومحاسبة المسؤولين، وأن يتم إيقاف العنصرية المُمنهجة ضد السُود في أميركا. كانت أيضًا من ضمن المطالبات، عودة الشرطة إلى دورها الطبيعي في حماية الناس.
مع بداية الثورة الصناعية في أوروبا، وبداية انتقال الناس إلى حياة المُدن، كانت هُناك حاجة إلى جسدٍ أو شخصٍ ليحافظ أو يحمي حياة الناس من السرقات وغيرها، وعادة ما يكون هذا الشخص من المدينة/ القرية نفسها، ويُدفع له من السكّان أنفسهم مُباشرة. في بعض الأحيان، كان فتوّة الحيّ، هو من يحميه، وذلك عن طريق أخذ نوعٍ من «الإتاوة» من الناس مقابل حمايتهم. لكن ومع تَسارع الحياة، وازدياد الهجرة إلى المدن من الأماكن البعيدة، بدأ نوعٌ من غياب الألفة، وانقطاع في العلاقات بين الحكام والمحكومين، ما جعلهم يخافون على مصالحهم، خصوصًا من الطبقة العاملة.
وبهذا، وفي نهاية القرن الثامن عشر، تأسس أول مركز شرطة في بوسطن، ولاحقًا في كثير من الولايات المُتحدّة الأميركيّة. عند النظر إلى الأمر من هذه الناحية، فإن الوظيفة التي تأسست لأجلها الشرطة، ليست خدمة الناس وحمايتهم، بل هم أدوات إنفاذ للقانون، اختيروا لحماية مصالح الأثرياء، وحراسة البروليتاريا خوفًا من أي أمر قد يَصْدر منهم.
الكلمات لا تسمح للحديث عن عنف السلطة، واحتكارها له، فمن وجهة نظر فوكو، الدولة وأجهزتها لا تأخذ حقها في الحكم تفويضًا، لأنها صراع إرادات وقوى وعلاقات لامادية داخل الجسم الاجتماعي، وأن قوة السلطة السياسية في الدولة تعبيرٌ عن علاقات الهيمنة التي لا تمثل السلطة في مجملها، وأن هذه الدولة تُمارس سلطتها عن استخدام كل علاقات القوة وباستخدام خطابات متعددة، منها الخشنة، ومنها الناعمة، وتكون الأخيرة على شكل خطاب أخلاقي أو ديني أو اقتصادي (فنّيًا وإعلاميًا).
هذا يقودنا إلى اقتباس فوكو الأهم: «كل خطاب هو سلطة بحد ذاته». في السبعين عامًا الأخيرة، عَمدت السينما والشاشة الصغيرة إلى عرض وتصوير أعمال تقوم على وضع الشرطة أو «أجهزة إنفاذ القانون» في دور البُطولة. حتى في عصر مُسلسلات الـ Anti-Hero، ما زالت مسلسلات الشُرطة في ذروة مَجدها، سواء كوميدية كانت، أو متعلقة بعلم الجريمة، أو أنها مُسلسلات بخط درامي يرتبط بحياة تلك الأجهزة بشكلٍ عامٍ، مُبيّنة وكاشفة التجاوزات التي يقومون بها على أنها تجاوزات بُطولية، يقومون بها لأجل الصالح العام، في حين أنّها، تُرسل خطابًا سلطويًا، يشاهده الناس، ويخبرهم بأنهم بخير، وأنهم يعيشون في ظل «الأمن والأمان» الأول في العالم.
فكما يحاول الأعداء استخدام القوة الناعمة في محاولة تطبيع وجودهم أحيانًا كعنصر طبيعي أو أساسي من أي مُجتمع أو تجمّع بشري، تقوم هذه المُسلسلات بالدور نفسه، في تصوير هذه الأجهزة على أنها تعمل فعلًا من أجل المواطن، لحمايته وخدّمته.
المُسلسلات الأميركية في هذا السياق، متنوعة ومتعددة، مثل مسلسل NYPD Blue الذي كان بداية عرض الصور غير الصالحة إلا للبالغين فقط عندما انطلق عام 1994، وكانت الشخصية المركزية في العمل هي شخصية الشرطي العنصري والغاضب طوال الوقت المُحقق سيبوتشز.
وعلى الرغم من عدم مديح الشخصية، إلا أنها كانت ساحرة بما فيه الكفاية لتكون جذابة للمشاهدين، وليتعلقوا بها. وانطلقت مع بداية الألفية أعمال جديدة أخرى مثل The Wire الذي تقوم فلسفته الرئيسية، بأنك كشرطي، لا يمكنك أن تكون شرطيًا جيدًا في نظامٍ فاسد في الكامل. في هذا المُسلسل، كان هناك تطبيع مع فساد الشرطة، وأن النظيف منهم يموت، ولا مكان له في هذا النظام الكبير والشموليّ والفاسد. يُشحن الناس بالكثير من الصُور البطولية، سواء من جانب الشرطة، أو من جانب الناس، وكل شخصٍ منهم يحاول أن يحقق نسخته الخاصة من البطولة، إما بقوة السلاح، أو بقوة التظاهر والاحتجاج والمطالبة.
كل واحدٍ منهم منزوع الحقوق والمُستقبل، وبدخلٍ متدنٍ، لكن على الرغم من هذا، يقف كل منهم مُحمَّلًا ومُعبأً بصورٍ وأسطر تجعلهم يظنون أنهم يقاتلون القتال الخيّر وفي خدمة الناس، ولكن ينتهي بهم الحال، الاثنين، مطحونين، واحد تحت سطوة الشرطيّ، والآخر، تحت سطوة الفساد والأجهزة الأخرى ذات السلطة الأعلى والأكبر.
واحدة من المشاكل في عرض المسلسلات الشرطية، يرتبط تمامًا بجوهر طريقة عمل المُسلسلات التلفازية. لا يسع التلفاز إلا أن يطبّع مع ما يصوره؛ لأننا نمضي الكثير من الوقت في مشاهدة أي برنامج تلفزيوني بحيث تصبح ظروفه أكثر اعتيادية بالنسبة لنا. هذا هو السبب في أن العديد من البرامج التلفزيونية تميل إلى رفع شدة المُخاطرة والأكشن بشكل كبير كلما طالت مدة عرض المسلسلات، لحمايتنا من الاعتياد ولإيجاد طرقٍ جديدة لصدمنا. ففي العالم الذي تُطلق في أجهزة الشرطة قنابل الغاز المسيلة للدموع، وتُطلق النيران الحيّة والمطّاطية، وتستخدم المدافع المائية ضد المُتظاهرين، وتضربهم في الشوارع وتعتقلهم لأنهم يطالبون بأمور «أساسية»، تُصوَّر هذه الأجهزة نفسها على أنها أجهزة «بطولة»، وأنهم يضحّون بحياتهم لأجل الناس، ولا ينامون الليل في خدمتهم.
هذا الأمر يجعل من السهل خِداع الناس للثقة بمثل هذه الأجهزة، فكم مرة سَمعنا أن الشرطة قتلت وضربت واعتقلت أناس لم يفعلوا شيئًا؟ وكم مرة تساهلت الشرطة مع القتلة سواء غربيًا أو عربيًا؟ حتى في السياق الاجتماعي الداخلي، تتنازل الشرطة عن دورها، لأدوار أكبر منها «سلطويًا»، مُدعية بأن نفوذها يتوقف عند ذلك الحد. جَدير بالذكر أن مجلس مدينة مينابولس قد قدّم خطة في شهر يونيو/ حزيران الماضي لتفكيك جهاز الشرطة، واستبداله بقسم «سلامة المُجتمع ومنع العنف»، بعد اشتعال المظاهرات في المدينة، وحرق المتظاهرين لمقر الشرطة ، واعتصامهم الطويل. نفس درجة الوعي التي نستدعيها عند مشاهدة خطابات بروباغاندا من أعدائنا، يجب أن نستدعيها مرة أخرى عند مشاهدة الأعمال التي تُطبّق مع العنف وتضمن خطابها الأيديولوجي في صورة ترفيهية جذابة.