السينما وكرة القدم: فنّ التوليف المباشر

22 يونيو 2018
رونالدو: ساحر الجماهير (Getty)
+ الخط -
هجوم مضاد سريع. كاميرا تطارد اللاعبين كما في فيلم وسترن. كادر كبير يقدّم نصف الملعب ويتقلص الكادر كلما اقترب الهجوم من المرمى. نرى مهاجمين ومدافعين وجهًا لوجه في حرب ذكية. دِقة التمريرات مثل دِقة اللقطات. أربع تمريرات برازيلية كافية لعبور الملعب من مرمى الحليف إلى مرمى الخصم. لقطات ذات قدرة شرح عالية تُشوِّق وتُبهج المتفرّج الذي يكره التمريرات الخاطئة لأنها مجرّد حشو مثل لقطات بلا معنى. في السينما يُحذف الحشو، وفي الكرة يبقى ويُعرض على الشاشة مباشرة. 


حين تصل الكرة مربّع العمليات يُغيّر المخرج كاميرا العرض. تصير خلف حارس المرمى، فإذا بها تمثّل عينيه وهو يراقب المهاجم الذي يستعدّ للتسديد: في أي اتجاه؟

يعيش المتفرّج إحساس الحارس بالحيرة بفضل عين الكاميرا التي تمثّل عينيه. إحساس ذاتي لكل متفرّج بفضل فنية الإخراج. يسدّد المهاجم. ترتطم الكرة بالعارضة الأفقية. تعرض الكاميرات ردود أفعال مدرّبين ولاعبين ومتفرّجين يلعنون الحظ. إنه مونتاج مباشر يلتقط التوتر. ولتخفيض الإيقاع، تترك الكاميرا الملعب لتبحث في المدرّجات عن جميلات أو عن طفل يتأمّل ما حوله بدهشة.

يُعرض الحدث الكروي من زوايا ومسافات متعددة على شاشة التلفزيون المتلألئة. تسمح الإعادة للمُشاهدين بفحص ما فاتهم لأنه وقع بسرعة. بل تُمكّنهم الإعادة من تحليل المراوغات وانتقاد قرارات الحكم وكشف اللاعبين العنيفين والغشّاشين الذين يتساقطون في منطقة الجزاء.
وحده المتفرّج أمام التلفزيون يرى كلّ هذا تباعاً ومكرّراً أحياناً. بينما المتفرّج في الملعب أشبه بمشاهد في قاعة مسرح. صار التلفزيون أشبه بشاشة سينما. كبرت الشاشات وهي بدقة متناهية وبألوان زاهية وبأسعار زهيدة، وهذا كلّه يمتّع العين.



على هذه الشاشات الجديدة يسهل فحص عمل الكاميرا في مقابلة كرة القدم. لقد حصل تطوّر في عمل مخرجي المباريات، يتجلّى في:

أولاً: الحرص على لقطات طويلة تظهر تموضع اللاعبين وتحرّكاتهم، بدلاً من التركيز على صاحب الكرّة فقط. سابقًا، كنّا نتابع اللاعب الذي لديه الكرة، بينما يخبرنا المعلّق بانتشار اللاعبين الآخرين. الآن، تُمكّننا اللقطة من مشاهدة نصف الملعب في آن واحد.

ثانيًا: يحتاج اللاعبون الذين يجرون بسرعة إلى مساحات لتحقيق التفوّق على المدافعين. هنا يحصل رونالدو وغاريث بيل على أفضل اللقطات بكاميرا طائرة تلحق بهم.

ثالثًا: يرتفع إيقاع اللقطات تبعًا لإيقاع التمريرات في مواجهات العمالقة. في المقابل، تفشل المواجهات المحلية في جلب جمهور كبير، لأن الإيقاع يكون بطيئًا بسبب التمريرات الفاشلة، وغالبًا ما تبقى الكرة وسط الميدان فتبقى الكاميرا مركّزة على اللقطة نفسها. هذا يولّد الملل.

النموذج العالمي للّقطات المسلية هو كريستيانو رونالدو، الذي ما إنْ يلمس كرة القدم حتى تسري القشعريرة في ملايين البشر. لم يسبق لأحدٍ أن سبّب القشعريرة لهذا العدد كلّه من الناس في لحظة واحدة. رونالدو البرتغالي أفضل من ليونيل ميسّي الأرجنتيني. يلمع ميسّي في برشلونة بفضل لاعبي الوسط الذين يسلّمونه الكرة بدقّة، بهدف التسجيل. حين يُفتقد أمثال هؤلاء في منتخبات بلادهم، يفقدون النجومية.



رونالدو أسطورة العصر. يُلهم مصمّمي الملابس وحلّاقي الشباب. الأسطورة هنا بالمعنى الإيجابي، قبل أن تصير وعيًا زائفًا في عصر الشكّ. بدل الأساطير الميتافيزيقية، تقدّم كرة القدم أساطير حية بأجساد بهية. إنها أسطورة لاعبي كرة القدم. أساطير مُجبَرة على التعاون في الملعب.

أحبّ اللعب الجماعي، وأفكر في الكادر "الفوردي". ففي أفلام المخرج الأميركي جون فورد، نادرًا ما نرى ممثّلاً واحدًا في اللقطة. يظهر ممثلون عديدون بانضباط لتنفيذ توجيهات المخرج. هذا يذكّر بانضباط تكتيكي للّاعبين الذين يديرهم المدرّب. ممثلون ولاعبون يُنفّذون ما يُطلب منهم بالضبط، من دون ارتجال، ومن دون تمثيل زائد.

تزداد كثافة هذه المشاهد وتأثيراتها بينما يعيش العالم في ظلّ "مونديال روسيا"، الذي يحقن شرايين المتفرّجين بوطنية كبيرة. الوطنية فخرٌ في الكرة، وعارٌ في الحروب. والكرة تصنع المستحيل. فهي صالحت النخبة مع الشعب. قدّم البريطاني إريك هوبزباوم دليلاً على لقاء النخبة بالشعب: استخدام أغنية أوبرا نشيدًا لمونديال إيطاليا 1990. في مونديال كرة القدم وحده، صارت الصفة تعريفًا.

بحسب "عصر التطرّفات" لهوبزباوم (ترجمة فايز الصُياغ، "المنظّمة العربية للترجمة"، 2011)، اشتهرت كرة القدم لسهولة ممارستها في أي حيّز مكشوف من المساحة المطلوبة، وصارت كالسينما "تفهم"، بغضّ النظر عن اللغة. الصُوَر توفّر إشباعًا نفسيًا حتى من دون فهم لغة التعليق. دليلٌ على ذلك؟ أشهر شخصين هما تشارلي شابلن وبيليه. لوجه الشبه هذا تاريخ عريق. ففي بداية القرن الـ20، ركّزت الحركات الفنية ـ كالسوريالية والدادائية والرمزية ـ على الفنون غير اللغوية. النتيجة؟ "صار الفيلم السينمائي والفنون البصرية المشتقّة منه الفنّ المركزي في القرن الـ20" (هوبزباوم). فالفيلم أثّر على ذوق البشر ونظرتهم إلى أنفسهم.

وجه شبه آخر: كرة القدم دراما، أي أفعال لا كلام. المقابلة كتاب من الصُوَر الحية، لذا "وداعًا للّغة". هنا، تستوي الكرة مع السينما. كلاهما "يفهم" بغضّ النظر عن اللغة. وحدهم لاعبو الكرة ينافسون تشارلي شابلن في شهرته. لكن السينما تتفوّق. من يرى فيلمًا هو مُشاهد، ومن يرى مقابلة في التلفزيون هو متفرّج، ومن يرى المواجهة في الملعب هو جمهور. للكلمات إيحاءاتها. الفيلم مجموع لقطات، والمواجهة مجموع ركلات. المواجهة تُستهلَك فورًا في البثّ المباشر، وتفقد قيمتها حين تكون "بائتة" ومسجّلة، بينما الأفلام تتعتّق مع الزمن، ويصير سحرها أكبر. عدد الذين شاهدوا أفلام تشارلي شابلن عشرات المرات، حتّى بعد وفاته، أكبر من عدد مشاهدي مقابلة/ مواجهة/ مباراة مسجّلة.

الأفلام خالدة، والمباريات تتبدّد. دليل على ذلك؟ لقطة الدون فيتو كورليوني (مارلون براندو) في "العرّاب" (1972) لفرنسيس فورد كوبولا وهو يحكّ ذقنه، ولقطة جاك (ليوناردو دي كابريو) وروز (كايت وينسليت) محلِّقَين في مقدمة الباخرة في "تايتانيك" (1979) أكثر تأثيرًا من لقطة رونالدو وهو يسجّل هدفًا بـ"ضربة مقصّ" طائرًا.
دلالات
المساهمون