"بص. إنت تقوله إن احنا محتاجين 10 مليار دولار يتحطوا في حساب الجيش. وعايزين من الإمارات 10 زيهم ومن الكويت كمان 10، بالإضافة لقرشين يتحطوا في حساب البنك المركزي".
هكذا وجّه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وقت أن كان وزيراً للدفاع، مدير مكتبه اللواء
عباس كامل، في إطار التفاوض على دعم مالي ضخم تُقدمه دول الخليج الثلاث السعودية والإمارات والكويت، لجنرالات الجيش المصري، لإتمام مهمة الانقلاب العسكري على الرئيس المعزول محمد مرسي.
ويوضّح تسريب منسوب للرئيس المصري ومدير مكتبه، أذاعته فضائية مكملين التي تبث من تركيا، مساء أمس الأول، كيف جرى التنسيق من خلال رئيس الديوان الملكي السعودي السابق، خالد التويجري، على مساعدات بقيمة 30 مليار دولار.
كشف اللغز
وتكشف التسريبات المنسوبة للسيسي، لغزاً أرهق المراقبين الاقتصاديين على مدار الشهور الأربعة الماضية، وتحديداً منذ أعلنت وزارة المالية المصرية، البيان الختامي لموازنة العام المالي 2013-2014 (الفترة من يوليو/تموز 2013 إلى يونيو/حزيران 2014) وهو العام الأول للانقلاب، حيث أورد البيان الختامي أن إجمالي ما دخل الخزانة العامة من دعم خليجي لمصر خلال هذه الفترة لا يتجاوز 10.6 مليارات دولار، وهو رقم يتعارض كثيراً مع تصريحات متفرقة لأكثر من مسؤول مصري، من بينهم السيسي نفسه، والذي قال في 17 مايو/أيار 2014، أن المساعدات الخليجية لبلاده، ليست "12 ولا 15 ولا 20 مليار دولار". قال: "أتكلم عن أموال فقط، أكثر من 20 مليار دولار".
وفي هذه التصريحات، استثنى السيسي، المساعدات النفطية التي وصلت مصر، والتي تصل إلى 10 مليارات دولار على الأقل، وفق حسابات لـ "العربي الجديد"، مبنيّة على أساس تصريحات مسؤولين بوزارة البترول المصرية، أكدوا خلالها، أن الحكومة تلقّت منذ يوليو/تموز 2013 وحتى سبتمبر/أيلول 2014، شحنات نفط مجانية بقيمة تصل إلى 700 مليون دولار، في المتوسط، شهريا. ما يعني أن السيسي تحصّل على 30 مليار دولار، أو نحو ذلك، من الدول الخليجية الثلاث (السعودية، الإمارات والكويت)، وفق ما جرى عليه الاتفاق محل التسريب الصوتي للرئيس السيسي. دخل منها 10.6 مليارات خزانة الدولة، فيما دخلت العشرون ملياراً الأخرى في حسابات الجيش، التي كان لها حظٌ من التسريب الصوتي، حيث وجّه السيسي بأن تدخل هذه المساعدات إلى حسابات الجيش المصري في المصارف الإماراتية، بشكل مباشر.
أما وزير التخطيط المصري، أشرف العربي، فقد أكّد في 20 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أن الدعم الخليجي لبلاده "تجاوز بمراحل مبلغ 20 مليار دولار، وأن هناك أشياء كثيرة لا تقال" وفق تعبيره.
وفي ظل هذا الغموض الرسمي في مصر بشأن مساعدات بعشرات مليارات الدولارات، لا تُصرّح دول الخليج الثلاث، التي تناولها التسريب، بحجم مساعداتها لمصر صراحة، ليكتسب الأمر مزيدا من الغموض. غير أن ما ورد في التسريب، بالنظر إلى البيانات السابقة للسيسي، يكشف حقيقة المساعدات وكيف اتجه أغلبها لحسابات الجيش في الخارج.
إتاوات أميركية
أثارت توجيهات السيسي، بطلب 30 مليار دولار من الدول الثلاث، ضحك الجنرال عباس كامل، مدير مكتب السيسي، خلا التسريب، غير أن السيسي قاطعه مستنكرا ضحكه، قائلا: "انت بتضحك ليه؟ ياعم الفلوس عندهم زي الرز ياعم. الأميركان بياخدوا كده"، في إشارة إلى أن الولايات المتحدة تتقاضى من هذه الدول 10 مليارات دولار، نظير تأمينها لهم.
واعتبر السيسي، في هذا المقطع من التسريب، نفسه مخلّصا لهذه الدول من خطر جماعة الإخوان، التي ينتمي إليها الرئيس المعزول محمد مرسي، على اعتبار أن وجودها يمثل خطراً
على استقرار الأوضاع السياسية في الخليج.
ورغم التحالف السياسي والاقتصادي بين دول الخليج وواشنطن، منذ عقود، إلا أنه لا توجد أية بيانات رسمية من أي من الأطراف، تؤكد أن دول الخليج تدفع عشرات المليارات من الدولارات لواشنطن سنويا نظير حمايتها، ما يضع كثيرا من علامات الاستفهام حول تصريحات السيسي في هذا الشأن.
شعب جعان
"ما انا ورايا شعب جعان ومتنيل بنيله وظروفي أنيل. وانتو عايشين حياتكوا بالطول والعرض وفلوسكوا متلتله قد كدا". بهذه العبارات التي ذكرها مدير مكتب السيسي في التسريب المنسوب إليهم، انكشف الستار عن كيف يرى الجنرالات شعب مصر؟ غير أن هذه العقيدة المتشكّلة لديهم، لم تمنعهم، وفق التسريب، من طلب 30 مليار دولار للجيش، مقابل "قرشين" للمواطنين من خلال البنك المركزي المصري.
ورغم معدلات الفقر المرتفعة في مصر، والتي تصل إلى 42% من إجمالي عدد السكان البالغ 85 مليون نسمة، بدأ السيسي فترته الرئاسية، بإجراءات تقشفية غاية في الحدة، ارتفعت معها أسعار السلع في الأسواق بنسب تتراوح بين 50 و100% في غضون أسابيع.
وقلّص السيسي دعم الوقود بموازنة العام المالي الجديد 2014-2015 إلى حدود 100 مليار جنيه (13 مليار دولار)، مقابل 138 مليار جنيه في العام المالي الماضي. ليرتفع بذلك سعر المشتقات النفطية بنسب بين 68% و175%.
ورفعت الحكومة أسعار الغاز ثلاثة أضعاف، رفعت الحكومة أسعار الكهرباء بين 15 و20% خلال العام الماضي، تمهيداً للتخلص من دعم الكهرباء نهائياً خلال خمس سنوات. وزادت أسعار الكهرباء الموجهة للصناعات كثيفة الاستهلاك بين 7 و23%.
وغيّرت الحكومة منظومة دعم السلع التموينية المطبقة منذ أكثر من خمسة عقود، عبر تقليص الدعم على هذه السلع بنحو 17% وإخضاع أسعارها للسوق الحرة وفقا للعرض والطلب.
وتوسّع السيسي في فرض الضرائب على الشعب، فزادت الضرائب على عدد من السلع من بينها السجائر، وفرض ضرائب دخل على كل أنشطة المصريين في الداخل والخارج، وعدّل قانون الضريبة العقارية ليشمل المحلات التجارية التي تزيد قيمتها الإيجارية على مائة جنيه شهريا بواقع 10% من الإيجار السنوي كل عام، والنسبة ذاتها على الوحدات السكنية المؤجرة
والتي تزيد قيمتها الإيجارية على 24 ألف جنيه سنويا.
حرب الخليج
أشار اللواء عباس كامل في حديثه إلى السيسي، خلال التسريب، إلى ضرورة التعامل مع دول الخليج بطريقة مختلفة عما جرى التعامل به خلال حرب الخليج التي وقعت في عام 1991، حين تدخلت مصر عسكرياً لتحرير الكويت من القوات العراقية.
وقال عباس متوجها بحديثه للسيسي: "بص يا فندم. بغض النظر بقى عن الوطنية والقومية
العربية والكلام ده، كان لازم في كل المواقف الرئيسية (التي يتدخل فيها الجيش) هات وخد. أنا جايلك سنة 1990 عشان البتاع (يقصد التدخل العسكري) يبقى لازم تدفع".
ويبدو أن الأرباح التي جنتها مصر من تدخلها في حرب الخليج لم تكن كافية من وجهة نظر الجنرالات، غير أن البيانات الرسمية تُشير إلى أن مصر حصلت على ودائع خليجية بقيمة 4.5 مليارات دولا ر في عام 1991، بلغت بعد استثمارها لأكثر من 22 عاماً نحو 9 مليارات دولار، وهي الوديعة التي فكّها رئيس الوزراء الأسبق، حازم الببلاوي، بعد شهور من الانقلاب العسكري.
وإلى جانب الوديعة الخليجية، شطب عدد من الدول الأجنبية والعربية ديوناً مستحقة لها على مصر، بإجمالي 25.2 مليار دولار، ليرتفع بذلك إجمالي ما حصّلته مصر من تدخلها بحرب الخليج إلى 29.7 مليار دولار، وهي قيمة تقترب من تلك التي اتفق السيسي على استحقاقها من السعودية والإمارات والكويت بعد الانقلاب العسكري، وفق التسريبات المنسوبة إليه.
ويقول مراقبون إن حرب الخليج جاءت طوقا لنجاة الرئيس المخلوع حسني مبارك، حيث بلغت الأزمة المالية في مصر ذروتها بنهاية ثمانينيات القرن الماضي، وتراجع النمو إلى 2% وزاد الدين الخارجي لحدود مزعجة، وارتفع عجز الموازنة لمستويات قياسية بلغت في العام المالي 1989 /1990 نحو 25% نتيجة الفوائد الباهظة على ديون مصر الخارجية.
القوة الاقتصادية للجيش
أثارت التسريبات الأخيرة، مجددا، موجة من التساؤلات حول فصل الجنرالات بين الدولة والجيش، وكأن الأخير دولة مستلقة بذاته، إذ أصرّ السيسي، على إدخال كل المساعدات في حسابات الجيش الخارجية، رغم النفوذ الاقتصادي الواسع الذي يتمتع به الجيش داخليا، إذ يقدّر
مراقبون أن المؤسسة العسكرية تتحكم بنحو 40 إلى 60% من اقتصاد مصر.
ولا تُفصح مؤسسة الجيش عن حجم استثماراتها أو حصتها من الاقتصاد. كما أن موازنة الجيش لا تخضع لرقابة الدولة أو المؤسسات التشريعية. ويوصّف الدستور، الجيش، باعتباره مالكًا لأراضي الدولة.
وتحصل جميع مصانع وشركات الجيش، على إعفاء كامل من الضرائب والجمارك، بما فيه إعفاء منشآت الجيش الاقتصادية من الضرائب العقارية المفروضة على سائر المنشآت في البلاد.