في قلب الصحراء، على بعد نحو 45 كيلومترا شرق القاهرة، لا يكاد الضجيج يتوقف على مدار الساعة، جيش من العمال وكثير من الآلات تزيل تلال الرمال، لتشييد أبنية حكومية ضخمة وعشرات آلاف الوحدات السكنية في العاصمة الإدارية الجديدة الأكثر إثارة للجدل في مصر، لاسيما في الأوساط الاقتصادية التي ترى أن المشروع يفتقد الجدوى الاقتصادية ويبتلع موارد البلاد.
صخب مستمر منذ أكثر من ثلاث سنوات، بينما يتسرب القلق إلى نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، من أن يخفت الضجيج ويتحول مشروعه في الصحراء إلى قلاع خرسانية ومبان من دون ساكنين، بعد أن نثر مئات مليارات الجنيهات في إنشاء البنى التحتية والمباني الحكومية وغيرها.
وبجانب الصعوبات التمويلية التي تجدها الحكومة في المضي قدما في المشروع، تواجه الشركات العقارية الكبرى صعوبة بالغة في تسويق عشرات المشروعات، التي حصلت على أراض لإقامة مجمعات سكنية عليها، بسبب ارتفاع الأسعار بشكل كبير، وتراجع القدرات الشرائية للطبقات فوق المتوسطة في مصر، التي طالما كانت المحرك الرئيسي للسوق العقارية.
وأمام معضلة التمويل التي تحاصر الحكومة والشركات، بدأت نبرة الحديث عن دور البنوك في تمويل المشروعات تتصاعد، وبالفعل أعلن البنك المركزي، في وقت سابق من أغسطس/آب الجاري، عن خفض أسعار الفائدة بواقع 150 نقطة أساس، ما اعتبره مطورون عقاريون أنه سيحرك القطاع الباحث عن تمويل لتنفيذ الكثير من المشروعات.
لكن قلقاً كبيراً يسيطر على العاملين في القطاع المصرفي، من توريط البنوك في تمويل الشركات العقارية، وكذلك راغبي تملّك الوحدات السكنية في العاصمة الإدارية، خاصة في ظل وجود مؤشرات قوية على دخول الدولة في مرحلة ركود، فضلا عن احتمال حدوث أزمة اقتصادية عالمية من الممكن أن تطاول تداعياتها مختلف دول العالم والقطاع المالي بشكل كبير.
ووفق بيان لمجلس الوزراء، في وقت سابق من أغسطس/آب الجاري، فإن الاستثمارات في العاصمة الإدارية منذ انطلاق المشروع بلغت نحو 250 مليار جنيه (15.1 مليار دولار) حتى الآن.
وأعلن السيسي عن بناء العاصمة الإدارية ضمن فعاليات مؤتمر دعم وتنمية الاقتصاد المصري، الذي عقد في مدينة شرم الشيخ شمال شرق البلاد في مارس/آذار عام 2015. وتبلغ كلفة إنشاء المرحلة الأولى نحو 45 مليار دولار، بينما تصل الكلفة الإجمالية إلى أكثر من 90 مليار دولار.
ومن المتوقع أن تبلغ مساحة العاصمة الجديدة حال اكتمالها 700 كيلومتر مربع، أي 170 ألف فدان. وستبلغ مساحة المرحلة الأولى منها نحو 168 كيلومترا مربعا (40 ألف فدان) وتشمل بناء مقار للرئاسة والوزارات والبرلمان، وأحياء سكنية، وحيا دبلوماسيا وحيا ماليا.
ويبلغ عدد السكان المستهدف خلال المرحلة الأولى نحو 500 ألف نسمة، بالإضافة إلى 40 أو 50 ألف موظف حكومي يتم نقلهم للمقرات الجديدة، مع التخطيط لزيادة الطاقة الاستيعابية إلى 100 ألف موظف بعد الثلاثة أعوام الأولى، طبقا للموقع الإلكتروني لهيئة المجتمعات العمرانية على شبكة الإنترنت، بينما يتوقع أن يقطنها 6.5 ملايين نسمة حال اكتمالها.
وأصدر السيسي، في فبراير/شباط 2016، قراراً باعتبار أراضي العاصمة الإدارية من مناطق المجتمعات العمرانية، وتأسيس شركة مساهمة مصرية بين هيئة المجتمعات العمرانية بوزارة الإسكان وجهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة، وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية بوزارة الدفاع، لتولي عملية تخطيط وإنشاء وتنمية العاصمة الجديدة.
وقال أحمد زكي عابدين، رئيس مجلس إدارة شركة العاصمة الإدارية للتنمية العمرانية المسؤولة عن تنفيذ المشروع، لرويترز، في مايو/أيار الماضي "هناك اهتمام شديد جداً من القيادة السياسية بالمشروع". لكن عابدين، وهو لواء جيش متقاعد، أضاف أن "حجم عمل ضخم لا بد أن يتبعه حجم مشاكل ضخم"، موضحا أن من بين المشاكل جمع وتوفير تمويل يقدر بنحو تريليون جنيه مصري (58 مليار دولار) للسنوات القادمة من بيع الأراضي واستثمارات أخرى.
وتابع "نحن محتاجون لتمويل ضخم جدا والدولة ليست لديها أموال"، مضيفا أن نسبة الاستثمارات الأجنبية في المشروع حتى الآن تبلغ نحو 20 في المائة، من بينها استثمارات صينية تصل إلى 4.5 مليارات دولار.
وفي أعقاب هذه التصريحات نشرت صحيفة "المال" الاقتصادية المصرية، في يوليو/تموز الماضي، أن شركة العاصمة الإدارية للتنمية العمرانية بدأت محادثات أولية مع عدد واسع من البنوك المحلية بغرض الحصول على تمويل بقيمة تصل إلى 20 مليار جنيه، لمقابلة أعمال المرافق والبنية التحتية واستثماراتها المختلفة التي تباشر تنفيذها بالعاصمة الجديدة شرق القاهرة.
لكن مجلس الوزراء نفى بعدها بأيام، اعتزام شركة العاصمة الإدارية، الحصول على قروض من البنوك المصرية، قائلا إن الموقف المالي للشركة قوي ومُطمئِن وتحقق أرباحاً سنوية من حصيلة بيع الأراضي للمستثمرين، وليست بحاجة للحصول على أي قرض أو تمويل خارجي. وشدد مجلس الوزراء على أن " ميزانية الدولة لم تتحمل أي تكاليف في إنشاء مشروع العاصمة الإدارية الجديدة".
في حين أن أرقام موازنة وزارة الاتصالات فقط، التي نشرتها "العربي الجديد" في 22 مايو/أيار الماضي، كشفت عن زيادة مخصصات أحد أبوابها من 900 مليون جنيه في العام المالي الماضي إلى 26.8 مليار جنيه في العام المالي الحالي، لإقامة مدينة وبنك المعرفة في العاصمة الإدارية بتكليفات رئاسية مباشرة، وفق ما أكده مدير الإدارة المركزية للمشروعات المتخصصة بوزارة الاتصالات، محمود فخر الدين، خلال اجتماع لجنة الموازنة بمجلس النواب آنذاك.
ويفرض نظام السيسي الذي أغرق البلاد في ديون داخلية وخارجية غير مسبوقة، حالة من التعتيم على تمويل مشروعات العاصمة الإدارية الجديدة.
وسجلت الديون الخارجية لمصر قفزة جديدة بنهاية مارس/آذار الماضي، لتكشف بيانات رسمية صادرة عن البنك المركزي أنها زادت بنحو 20 في المائة على أساس سنوي، فيما أظهر مسح لـ"العربي الجديد" أنها قفزت بنسبة 130 في المائة منذ وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي للحكم قبل نحو 5 سنوات.
وذكر المركزي المصري أن الدين الخارجي ارتفع إلى 106.2 مليارات دولار في نهاية الربع الأول من العام الجاري 2019، مقابل 88.16 مليار دولار في نفس الفترة من 2018.
ومن المرجح تجاوز الديون الخارجية لمصر 110 مليارات دولار، خلال أغسطس/آب الجاري، وفق حسابات "العربي الجديد"، بعد أن حصلت الحكومة على الشريحة الأخيرة من قرض صندوق النقد الدولي البالغ قيمتها ملياري دولار في وقت سابق من هذا الشهر، فضلاً عن بيع سندات دولية (أدوات دين) بقيمة ملياري يورو (2.25 مليار دولار) في إبريل/نيسان الماضي.
ويتنامى القلق من تجاوز الديون المصرية المستويات المتضخمة الحالية، ما يجعل أجيالاً من المصريين رهينة مستويات متدنية من العيش، في ظل دوران البلاد في دوامة لا تنتهي من الاستدانة، وفق الكثير من المحللين الماليين.
لكن ما يقلق القطاع المصرفي بشكل كبير، أن يتم إقحام البنوك بشكل مباشر في تمويل مشروعات العاصمة الإدارية، لاسيما المشروعات السكنية التي تنفذها الشركات الخاصة، ما ينذر بتعرّض البنوك لكارثة تعثر حقيقية، حال تعرض الدولة لمشاكل اقتصادية محتملة خلال الفترة المقبلة، وفق مسؤول رفيع في إدارة الائتمان بأحد أكبر البنوك الحكومية.
وقال المسؤول المصرفي لـ"العربي الجديد": "الكل يعلم أن خفض أسعار الفائدة مؤخراً وما يتبعه من خفض متوقع يستهدف تمويل الشركات العقارية وعملائها في العاصمة الإدارية بشكل خاص والقطاع العقاري بشكل عام، بينما يدرك كثيرون أن الركود الذي بدأ يضرب أركان القطاع يهدد الجميع، حال عدم اتخاذ خطوات واعية، وليس مجرد الانصياع لما يأتي من أوامر فوقية".
وتابع أن "البنوك بالفعل منغمسة في إقراض الحكومة بشكل غير مسبوق، وهناك تباطؤ اقتصادي يثير القلق، الكثير من القطاعات الاقتصادية تعاني ولديها مشاكل حقيقية، وبالتالي التحوط في التمويل في مثل هذه الظروف أمر حتمي، فهو بمثابة حياة أو موت للبنوك".
وفي 28 يوليو/تموز الماضي، نقلت صحيفة الشرق المصرية اليومية، عن مصادر مصرفية قولها، إن البنك المركزي يعكف على دراسة مبادرة للتمويل العقاري تشمل توفير برامج تمويل للموظفين المقرر انتقالهم إلى العاصمة الإدارية بأسعار فائدة ميسرة.
وكان رئيس العاصمة الإدارية الجديدة قال إنه سيتم نقل الوزارات إلى العاصمة الإدارية في 30 يونيو/حزيران 2019، مشيرا إلى أن وزارة التخطيط تقوم بوضع ضوابط عمليات نقل الموظفين، والإدارات، حيث إن عمليات النقل ستكون لبعض الإدارات وليس كلها، لكن تقرر تأجيل نقل الموظفين إلى العام المقبل 2020 في ظل عدم اكتمال الكثير من الأعمال.
وقال مسؤول تنفيذي في إحدى أكبر شركات التطوير العقاري، التي حصلت على مئات الأفدنة لإقامة مشروع عقاري في العاصمة الإدارية، إن "حجم ما تم حجزه منذ أكثر من عامين لا يتجاوز 20 في المائة من إجمالي المشروع، هناك ضعف في الإقبال، ليس لدينا فحسب، وإنما عند مختلف الشركات التي لديها مشروعات هناك".
وأضاف المسؤول، الذي طلب عدم نشر اسمه، في تصريح لـ"العربي الجديد": "الجميع يعلم أن أسعار الوحدات مرتفعة، لكننا لسنا السبب في ذلك، فقيمة الأرض التي حصلنا عليها من الحكومة مرتفع، وبالتالي، فإن القيمة النهائية للوحدة لن تكون في مقدرة الكثيرين، لذا تحدثنا صراحة مع الحكومة عن ضرورة تيسير شروط التمويل العقاري من جانب البنوك لتحريك المبيعات، وإلا فسيواجه الجميع مأزقاً حقيقياً في العاصمة الجديدة".
وبرغم العقبات، يستعرض الرئيس المصري المشروع بفخر أمام ضيوفه. واصطحب السيسي، الرئيس الفرنسي الزائر إيمانويل ماكرون، في جولة بطائرة هليكوبتر، لتفقد الموقع في يناير/كانون الثاني.
وقال ديفيد سيمز، مؤلف كتاب (أحلام الصحراء المصرية)، وهو كتاب عن مشروعات التنمية، إن الدعم الذي توفره الرئاسة والجيش في مصر للمشروع يجعله "أكبر من أن يفشل". لكنه أضاف أن هذا لا يضمن أن الناس يريدون العيش هناك.
وأضاف: "أن يكون لديك جيش من العمال وكثير من الآلات في مشروع يزيلون تلال الرمال فهذا أمر.. لكن أن يكتمل المشروع بصورته النهائية فهذا أمر آخر".
ويخطط السيسي أن تحل المدينة الجديدة، محل القاهرة، العاصمة الحالية المطلة على نهر النيل والتي تعاني من الإهمال ويعيش فيها أكثر من 20 مليون نسمة. ويصور مقطع فيديو دعائي مدينة خضراء تدار بأنظمة الدفع غير النقدي للمواصلات وخدمات أخرى، وذلك على النقيض من القاهرة التي نال الإهمال من قلبها المعماري الأنيق الذي يعود إلى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
وفي ظل الحدائق والطرق التي تصطف على جانبيها الأشجار، سوف تستهلك المدينة ما يقدر بنحو 650 ألف متر مكعب من المياه يومياً من موارد البلاد المائية الشحيحة.
وقال مدير تنفيذي في إحدى شركات التسويق العقاري في منطقة التجمع الخامس، أحد أرقى أحياء القاهرة وأعلاها سعراً، إن "هناك محاولات حكومية لدفع الشركات التي عملت على تنمية منطقة التجمع ووضعتها في مقدمة السوق العقارية في مصر، للتوجه نحو العاصمة الإدارية لخلق زخم حولها".
وأضاف: "ما يقلق الكثير من صغار المستثمرين، الذين لا يستطيعون دخول سوق العاصمة الجديدة، أن تهمل الحكومة بشكل متعمد المناطق العمرانية الجديدة لصالح دفع بعض ساكنيها إلى هجرتها نحو العاصمة التي يجرى تكثيف الدعاية لها ليل نهار عبر البرامج والإعلانات وحتى الأغاني الوطنية التي لا تفارق الشاشات الفضائية على مدار الساعة".
وفي مقابل مئات مليارات الجنيهات التي يجري إنفاقها في العاصمة الجديدة، تظهر بيانات صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، في يوليو/تموز الماضي، زيادة الفقراء إلى ما يقرب من ثلث السكان، بينما يشكك خبراء اقتصاد في شفافية هذه البيانات، مؤكدين أن نسبة الفقر تطاول نحو ثلثي المصريين، في مؤشر على تدهور الأوضاع المعيشية في البلاد، وسط غلاء متفاقم وتآكل في قيمة الأجور ونقص في الخدمات.
ووفق بيانات جهاز الإحصاء، فإن معدل الفقر خلال العام المالي 2017/2018 ارتفع إلى 32.5 في المائة، مقابل 27.8 في المائة خلال العام المالي 2015/2016.