يفرض حكم المحكمة الدستورية العليا المصرية، بوقف إجراء انتخابات مجلس النواب، أمس الأحد، في ضوء عدم دستورية قانوني الانتخابات وتقسيم الدوائر، تساؤلات عدة حول طبيعة المشهد خلال الفترة المقبلة. يفيد السيناريو الأول بأن نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، حقق استفادة كبيرة من تأجيل الانتخابات من حيث إبقاء الحياة السياسية في مصر بحالة موت سريري لعدة أشهر أخرى، فضلاً عن إطلاق يد الرئاسة في إصدار القوانين بصورة موسعة في ظل عدم وجود برلمان، ومنع وصول فلول الحزب الوطني المنحل إلى المشهد، ليس رفضاً لهم، ولكن في إطار الصراع القائم معهم.
اقرأ أيضاً (مصر: وقف الانتخابات البرلمانية لعدم دستورية القوانين)
بيد أن الأزمة التي تواجه نظام السيسي، هي أن المؤتمر الاقتصادي المقرر في شرم الشيخ خلال الشهر الحالي، مهدد بشكل كبير بالفشل أو على أقل تقدير بعدم تحقيق الأهداف منه، فضلاً عمّا ينذر ذلك من ضعف الاستثمارات الخارجية، ومن المحتمل تعديل بعض الدول الخارجية سياساتها تجاه النظام الحالي في ظل عدم جديته في استكمال "خارطة الطريق".
ويأتي حكم المحكمة الدستورية بتأجيل الانتخابات، في ظل التأكيدات بأن عدم دستورية القوانين كان مقصوداً من قِبل النظام الحالي، في ظل الرغبة في ما يسمى "تفخيخ البرلمان".
و"تفخيخ البرلمان" أسلوب اتبعه المجلس العسكري المصري عقب ثورة يناير 2011 من خلال وضع مواد جديدة لتنظيم إجراء الانتخابات البرلمانية بشكل مخالف للدستور والقوانين، بحسب خبراء قانونيين، وبالتالي يسهل في أي وقت الطعن بعدم دستورية القوانين وما يتبع ذلك من حل البرلمان. وهذا السيناريو حدث بالفعل، وأصدرت المحكمة الدستورية عقب انتخاب أول برلمان عقب ثورة يناير، حل مجلس الشعب لوجود خلل دستوري بقانون الانتخابات.
اقرأ أيضاً (الانتخابات البرلمانية المصرية تقترب من مصير التأجيل)
وفي أوقات سابقة ومناسبات عديدة، أكد معظم الخبراء القانونيين والأحزاب السياسية المصرية، عدم رضاهم عن قانون الانتخابات وتقسيم الدوائر، ليس فقط للناحية السياسية فحسب، نظراً لأن القانون الحالي يضعف دور الأحزاب في مواجهة رأس المال. وشددت الأحزاب بدورها، أكثر من مرة، على أن القانون تشوبه عورات دستورية، تمهِّد لحل مجلس النواب عقب انعقاده، وتقدمت بعض تلك الأحزاب بمسودات لتعديل القانون خوفاً من حل مجلس النواب حال الطعن بعدم دستوريته، تفادياً لوجود فراغ تشريعي مرة أخرى.
عن هذا الموضوع، يقول خبير في "مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية"، إن "حكم المحكمة الدستورية العليا يعني أننا عدنا للمربع صفر"، مشيراً إلى أن الحكم كان متوقعاً وليس مفاجئاً. وأشار إلى أن العديد من الفقهاء الدستوريين أكدوا أثناء إعداد القانون بأن هناك العديد من مواد القانون غير متفقة مع الدستور، مثل تقييد المرشح بعدم تغيير صفته الحزبية، فضلاً عن تمييز المرأة بشكل إيجابي، بالتالي كانت عدم الدستورية "مركبة"، على حد تعبيره.
وحول تعليقه على المشهد المصري حالياً من دون إجراء انتخابات برلمانية، يقول الخبير القانوني إن "هذا الحكم سيمدد احتكار النظام لأدوات السلطة، وأهمها سلطة التشريع، وفي هذا تكرار لمشهد مرحلة المجلس العسكري عندما ضغطت القوى السياسية عليه من أجل إنهاء احتكاره للسلطة وظلت تلاحقه حتى يتخلى عنها، ثم اتخذت موقفاً أشد مع الرئيس محمد مرسي بسبب الإعلان الدستوري الذي كان سبباً رئيسياً في تقويض حكم مرسي والتعجيل بنهايته، وبالتالي فستكون هناك علامة تساؤل من الأحزاب حول استمرار سلطة التشريع مع السلطة الحالية".
وأكد الخبير السياسي أن إجراء الانتخابات البرلمانية وعدم تأجيلها لأجل غير مسمى أو لفترة زمنية طويلة سيكون بمثابة الاختبار الحاسم لمصداقية النظام السياسي في مصر.
يأتي هذا فيما يحذر خبير اقتصادي بارز من مغبّة تداعيات الحكم الأخير على مناخ الاستثمار في مصر، مشيراً إلى أن "عدم وجود برلمان سيدفع المستثمرين الجادين إلى الهرب باستثماراتهم"، مضيفاً أن "أهم عنصر أمان بالنسبة لأي مستثمر أجنبي هو وجود برلمان واضح المعالم والتوجهات ". من جانبه، يشدد رئيس المكتب السياسي لحزب البناء والتنمية، الذراع السياسي للجماعة الإسلامية، طارق الزمر، على أن "الحقيقة التي يجب أن نفسر على ضوئها ما يجري في مصر هو أن النظام اضطر إلى الإقدام على الإعلان عن موعد الانتخابات بالطريقة الدراماتيكية التي استنكرها المدققون في ضوء ضغوط مؤتمر المانحين (شرم الشيخ)، وكأنها فقط مجرد وسيلة لتحصيل المليارات. وعندما اكتشف أن المؤتمر لن يضيف لجيبه جديداً، قرر تأجيل الانتخابات".
وأشار الزمر، في تصريح له على حسابه الشخصي بموقع "فيس بوك"، إلى أن السيسي أدرك أن البرلمان المقبل سيسيطر عليه نواب الحزب الوطني المنحل السابقون، فضلاً عن أن البرلمان المقبل مطالب بإقرار كل التشريعات التي صدرت خلال الفترة الماضية خلال أسبوعين فقط من انعقاده، وهو ما يستحيل على أي برلمان في العالم.
من جانبه، حمّل رئيس حزب النور، يونس مخيون، مسؤولية الخلل في التشريعات الأخيرة إلى المستشار عدلي منصور بصفته كان الرئيس المؤقت للبلاد، رافضاً، في تصريح له، تحميل المسؤولية للرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي.
أثار الحكم غضب العديد من المرشحين على المقاعد الفردية، وقال أحدهم، في تصريحات خاصة: "لقد أنفقنا مبالغ كبيرة حتى الآن في الدعاية الانتخابية، ومن سيعوضنا عنها الآن في ظل الحديث عن أن الانتخابات لن يتم إجراؤها خلال فترة قصيرة". من جهته، قال الفقيه الدستوري، نور فرحات، إن حكم المحكمة بعدم دستورية المادة الثالثة من قانون الانتخابات البرلمانية والذي يُحدد مكونات كل دائرة وعدد المقاعد المخصصة لها، ولكل محافظة، طبقاً للجداول المرفقة، بما يكفل التمثيل العادل للسكان والمحافظات والمتكافئ للناخبين، معناه واحد وهو نسف قانون الانتخابات البرلمانية بأكمله، وبالتالي أصبحت الانتخابات البرلمانية واجبة التأجيل بنص القانون، لأن هذا الأمر ينطبق على القوائم والفردي.
ويرى كثيرون في مصر وخارجها، أنه في خلفية هذه السجالات والمحاولات لعدم تمرير القانون من قبل السيسي، يقبع الصراع الأهم والأشرس بين نظامي السيسي ورجال المخلوع حسني مبارك، حيث يجمع عديدون على أن المكان الأقوى لما يسميه البعض "دولة مبارك"، هو مؤسسة القضاء. ويعتبر مراقبون ومحللون، أن مجلس النواب يمثل صداعاً مزمناً للرئيس المصري، لما له من صلاحيات واسعة، فمن حق الأغلبية تشكيل الحكومة وسحب الثقة منها، وعزل الرئيس.
وتعد فلول الحزب الوطني المنحل، أكثر التيارات التي قررت خوض الانتخابات عدداً، من خلال تشكيل تحالفات انتخابية قائمة في الأساس على رجال مبارك، مثل تحالف "الجبهة المصرية"، ودخول بعض الأحزاب (الفلول) ضمن تحالفات أخرى، فضلاً عن تسلل بعض الشخصيات المحسوبة على نظام مبارك إلى أحزاب أخرى. ويؤرق السيسي فشل مستشاره كمال الجنزوري في تشكيل قائمة موحدة قوية للانتخابات، وهو أمر تسبب في كثير من التأجيلات للانتخابات، بيد أنه أخيراً تمكن اللواء السابق، سامح سيف اليزل، من تشكيل قائمة بديلة عن قائمة الجنزوري، باتت تمثل اتجاه السلطة في مصر.
ولم يتمكن السيسي من التخلص من رجال مبارك جملة واحدة لتخفيف وطأة سيطرتهم على البرلمان. ففي حين تمكن من الإطاحة بأمين السياسات السابق بالحزب الوطني المنحل أحمد عز من سباق الانتخابات، إلا أن عز يدعم مجموعة كبيرة من رجال الأعمال المحسوبين على نظام مبارك مرشحين على مقاعد الفردي.
وشكلت قضية تأجيل الانتخابات هاجساً ومصدر قلق لدى الأحزاب السياسية، فبعض تلك الأحزاب أوقفت مؤقتاً الاستعداد للاستحقاق، لعدم تكبّد خسائر مالية وتبديد طاقة أعضائها. ويشير مراقبون إلى أن السيسي يعاني من مأزق شديد في ما يخص الانتخابات، لأنه لا يضمن ولاء الأغلبية، وبالتالي فضّل عدم إجراء الانتخابات في هذا التوقيت والتأجيل لعدة أشهر. ويلفت هؤلاء المراقبون إلى أن الأساس في "تفخيخ البرلمان"، هو الصراع المتوقع مع فلول الحزب الوطني، الذين يعتبرون مصدر قلق دائم له، لأنهم يهددون بقاءه في ضوء صلاحيات مجلس النواب الكبيرة. يبقى أن السيسي الآن بات بإمكانه إصدار مزيد من القوانين بشكل يسمح له التحكم في مجريات الأوضاع في مصر، بعيداً عن أي رقابة برلمانية هي شرط أساسي لأي ديمقراطية في العالم.
وأسدلت المحكمة الدستورية الستار على سيناريوهين ترددا في ظل نظرية "تفخيخ البرلمان": الأول ـ وهو ما تحقق ـ يتمثّل في رغبة النظام بتأجيل الانتخابات لأقصى وقت ممكن، والثاني أنه يمكن حل البرلمان عقب إتمام الانتخابات إذ جاءت النتيجة بالأغلبية معارضة للسيسي.
وكانت ضغوط مارستها دول غربية وأوروبية على نظام السيسي، من أجل إجراء الانتخابات البرلمانية في أقرب وقت ممكن لإتمام خارطة الطريق، وتحديداً قبل المؤتمر الاقتصادي المقرر عقده الشهر الحالي. ويرى مراقبون أن السيسي لجأ إلى تفخيخ البرلمان بمواد غير دستورية، حتى يكون تأجيلها جاء بحكم قضائي لا يتدخل هو فيه، وبالتالي يتذرع أمام القوى الدولية بأنه يريد إجراء الانتخابات، ولكن التأجيل جاء بحكم قضائي.
وفي هذا السياق، ينذر تأجيل الانتخابات بعدم نجاح المؤتمر الاقتصادي في تحقيق أهدافه، في ضوء عدم اكتمال مؤسسات الدولة، ورفض مؤسسات اقتصادية دولية إعطاء مصر قروضاً أو منحاً إلا عقب إتمام خارطة الطريق، واستقرار الأوضاع.
وفي ظل الانتقادات الموجهة للنظام الحالي بالتنكيل بالمعارضين، يتوقع أن تغيّر بعض الدول الغربية سياساتها، بشكل على الأقل بسيط، في ظل عدم إتمام الانتخابات. كما أن بعض الدول رهنت الموقف من النظام الحالي بإتمام خارطة الطريق كاملة، ومن ثم البت في شكل التعامل مع النظام الجديد في مصر. وكانت هيئة المفوضين في المحكمة الدستورية العليا، أوصت بعدم دستورية نص المادة 25 من القرار بقانون رقم 45، في شأن تنظيم مباشرة الحقوق السياسية، والحد الأقصى للإنفاق على الدعاية الانتخابية وعدم دستورية جداول انتخاب النظام الفردي وتقسيم دوائر الانتخابات.
وقد استندت الهيئة في عدم دستوريتها على أنه لا يوجد مبرر منطقي يمكن معه قبول هذا التفاوت في الحد الأقصى للإنفاق على الدعاية الانتخابية بين الفردي والقائمة. وتسلمت المحكمة الدستورية العليا، خلال اليومين الماضيين، مذكرات ومستندات جديدة من قِبل مقيمي الطعون على دستورية قوانين الانتخابات، وهيئة قضايا الدولة بصفتها ممثلة للحكومة، حيث طالب مقيمو الطعون في مذكراتهم بالأخذ بتقرير مفوضي المحكمة في الاعتبار، وإصدار أحكام بعدم دستورية قانون تقسيم الدوائر.