السيسي ومعاداة أميركا.. سيرك بهلواني
لم يعد لعبد الفتاح السيسي من موارد يعبئها ليضخ رشح مشروعيته، سوى مبادرات تثير الشفقة قبل السخرية. هو يعلم أنه اغتصب السلطة، ولا أحد يستطيع أن يمنحه المشروعية. يتذكر جيلنا عبارة ماركس الشهيرة، والتي كنا نستشهد بها حين كنّا طلاباً في الجامعة، نتحرش بالبرجوازيين، عندما يتزوجون باكراً جميلات كلياتنا، فنردد كمداً وحسرة، "يستطيع المرء أن يغتصب بماله أجمل النساء، لكن لن يمنحه ذلك متعة الفوز بقلبها". يستطيع السيسي أن يتربع على عرش مصر فرعوناً أبدياً، ولكن، لا أحد يستطيع أن يمن عليه بالقبول الطوعي به. رضا الناس عنه وقبولهم به سيكون الكابوس الذي يرعبه باستمرار. جثث ميدان رابعة العدوية المحترقة، وأشلاء الأطفال المتناثرة ستظل نزيفاً ينخر ما يحوزه، واهماً، من مشروعية. على الرغم من "شرعية" نصوص قانونية تكتب تحت الطلب، وصناديق اقتراع لم تقبل عليها إلا جموع ضعيفة، ترى فيها تحصناً من المساءلة، وتشفياً من خصم سياسي، لم يقدروا عليه في منازلةٍ، يُصاب السيسي بسهاد مضنٍ، وهو على استعداد لأن يحلب ضرع الغولة، حتى يخفف عنه ذلك.
يتصور مستشارون للسيسي أنه يستعيد شبابه الناصري، فيما هم يعلمون أن الزمن قد تبدّل، وأن أميركا ذاتها تغيّرت، وأن السيسي ليس عبد الناصر. ولكن، تمضي جوقة هؤلاء في دغدغة مشاعر جماهير محبطة ومسلوبة، بالاستظلال بقامة عبد الناصر زوراً وبهتاناً. يتوهم كل هؤلاء أن ذلك سيمنح السيسي صورة البطل القومي التي تستعيد مصر بها دورها العربي. ولكن، يعلم هؤلاء، أيضاً، أن السيسي ما كان له أن يجلس على عرش مصر، لولا ضوء أخضر أميركي، نزل عليه بيرقاً منيراً. كما يدرك هؤلاء، أيضاً، أن السياق كان مواتياً، خصوصاً بعد عسكرة الثورة السورية وتعثر الثورة الليبية، وتنامي الإرهاب في أكثر من بلد، عوامل جعلت الولايات المتحدة تغير في مخبر تجاربها، وهي مستعدة أن تجرب جميع الوصفات، من أجل حل معضلة تغيير ديموقراطيٍ في الوطن العربي، مع جرعاتٍ متفاوتة من الإسلام السياسي، وحتى تبلغ ذلك، عليها أن تغير من مواد التجريب، بما يتلاءم مع واقعٍ يفيض على أدوت المخبر ذاتها، وتلك من أبعاد معضلة التجريب في حقل الإنسانيات والعلوم السياسية خصوصاً.
وقد جاء تقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش" فاجعة للنظام المصري الحاكم، وأصابت منه مقتلاً. وتزامن ذلك مع الذكرى الأولى لارتكاب مجزرةٍ عُدّت من أفظع الجرائم المرتكبة في حق الإنسانية في القرن الأخير، إنها من صنف مجزرة سربرينيتشا وحماة وحلبجة وغيرها.
كانت أمام السيسي فرصة نادرة للتعاطي الإيجابي مع ذلك التقرير، باتخاذه ذريعة، إما لبدء مصالحة وطنية على قاعدة "عفا الله عما سلف"، أو على الأقل الإقدام على جملة إجراءات تأديبية رادعة في حق من ثبت ضلوعهم في كل ذلك، لكنه لم يقدم على ذلك، لأنه يعلم حقيقة من أعطى التعليمات مباشرة لارتكاب تلك الجرائم. هذا الحدث التأسيسي المعبد بالدم هو ما بنى عليه السيسي سلطته، أما البقية الباقية من الأحداث التي ستأخذ مجرى الملهاة حيناً، والمأساة حيناً آخر، فهي ليست إلا بهارات لوليمةٍ بريةٍ من لحم رابعة.
وهو في ضيق مما ورد في التقرير، يعلم أن الهروب إلى الأمام بجيشٍ من مرتزقة الإعلام، وفي قنواتٍ تشتهي من الدماء أكثر من اشتهاء تنامي عدد قرائها ومتابعيها، قد يكون وصفة للنجاة. يهرول النظام في اتجاه لافتة مهترئة (معاداة أميركا). في حين يدرك الجميع أن معاداة أميركا تقتضي حالة من التعبئة الروحية والفكرية، لا تتوافر لدى النظام المصري الحالي، فضلاً على أن مناهضة عبد الناصر الولايات المتحدة الأميركية، كانت أيضاً على قاعدة اعتناق القضايا القومية، وخاصةً القضية الفلسطينية. فلا يمكن للسيسي أن يعادي أميركا في قُطريته المصرية الخالصة، ففي اللحظة التي يوهم فيها أنه يعادي الولايات المتحدة الأميركية يقدم هدايا لم يتجرأ على منحها حتى أقرب أصدقاء أميركا الخلص، أنور السادات أو حسني مبارك. يغلق السيسي المعابر، ويشدد الحصار، ويردم الفلسطينيين تحت الأنفاق، ويسمهم بالإرهاب المطلوب خنقه والقضاء عليه. السيسي، وهو يوهم بمعاداة الولايات المتحدة الأميركية، ينبطح ويغزل من حرير لسانه سجاجيد، يمر عليها مهندسو الانقلابات في عدد من دول الخليج العربي، وهو ما لم يتخيله جمال عبد الناصر مطلقاً. أما زيارة بكين وعقد صفقات أسلحة مع روسيا، فهي هوامش للتسلية لن تمنح للسيسي مطلقاً صفة معاداة أميركا.
ينخرط السيسي في لعبة سيرك فاضحة، ويعلم المصريون، قبل غيرهم، أن من ألعاب السيرك الضاحكة ما يميت. وهذه الألعاب قائمة على رسم الحدود ومعرفة ردود الأفعال وتقنيات المبادرة، ناهيك عن سرعة البداهة أثناء التصرف في الحالات الطارئة. هنالك هوامش للمبادرة، يتحرك فيها البهلواني، أو مروض الحيوانات. لا شك أن السيسي في أدائه دور المعاداة ذاتها، يمتع ببهلوانيته جمهوراً عريضاً، كاشفاً بذلك عن مواهب خارقة. على الضفة الأخرى من الركن الفسيح، يتكاسل الأسد الهرم غير عابئ بكل تلك الجلبة، ما لم تخرج حركات المهرج عن حدود اللياقة، أو تصيبه منها لفحة كبرياء.
يحاول النظام المصري، في تنديده بأسلوب تعاطي السلطات الأميركية مع احتجاجات مدينة فيرجسون، في ولاية ميسوري، لفت الأنظار وتحويلها عن تقرير هيومان رايتس ووتش بشأن ميدان رابعة العدوية، موهماً أنه في ذلك يعادي الولايات المتحدة، ولكن، ليس له من إيديولوجيا ملهمة، أو من زعيم ينبض صدقاً، سوى "طز في أميركا"، التي كان يرددها جاره السابق معمر القذافي، حتى وهو يسلم إليها حاويات برنامج تسلحه النووي.