السيسي وأسطورة سرير بروكرست

31 اغسطس 2018
+ الخط -
تحكي قصة الأسطورة اليونانية أن حدادا مجرما يدعى بروكرست عمل قاطع طريق، واصطنع سريرا على مقاسه، وكان كل من يمر عليه يقتاده إلى ذلك السرير، ليُقاس عليه، فإن طالت أطرافه على مقاس السرير قطعها، وإن قصرت مطّها. كان ذلك نوعا من التعذيب يمارسه من خلال عملية إجرام كبرى، كان يريد أن يجعل كل الناس على مقاسه. إنها قصة المستبد، المستبد في حقيقة الأمر يمارس إجراما في حق ناسه، ويحاول أن يجعلهم على مقاسه، يعرض كل منهم على سريره، لا يقبل زيادة أو نقصانا. إنه حال المستبد، هذا الإجرام الفاشي الذي يمارسه ذلك المستبد إنما يشكّل قصته مع المجتمع، وهو أمر تؤشر عليه مشاهد كثيرة، حينما جعل ذلك المستبد مصر سجنا كبيرا يُدخل فيه من لم يكن في جوقته، أو على مقاس معايير اصطنعها، ليست إلا تعسّفا، وليست إلا ممارسات حمقاء، تقوم على التحكّم والإجرام.
المستبد المنقلب قاطع طريق، ذلك أنه، بانقلابه الذي غدر به بالثورة والمجتمع، قد قطع الطريق على مسار ديمقراطي، واعتلى عرش السلطة، متحكّما متعسّفا، لا يقبل المختلف أو المخالف، إنه حال المنقلب، حينما يعطّل الدستور، ويختطف الشرعية، ويختطف كل أحد، يحاكمه على قاعدة من معاييره التحكمية والقسرية. لا يريد إلا تشكيلا واحدا وصوتا واحدا، إنها عسكرة المجتمع، يمارسها ذلك المستبد، حتى يجعل المجتمع بكل مكوناته، وكل علاقاته، وفق أهوائه ورغباته. إنه لا يستمع إلا لصوته، ولا يطبق إلا قواعده المستبدّة، من غير أدنى تعقيب، ليس لك أن تحتج، أو تتحدّث خروجا على جوقةٍ اصطنعها على مقاسه، فصارت تفعل ما يريد، يقدّر منها ما أراد، ويترك منها ما يرغب. هكذا كان المستبدّ، مدعيا أنه لا يريهم إلا ما يرى، وما يرى حتى وإن كان عجيبا وغريبا، ولا يتمتع بالمعقولية، فإنه عين الرشاد في فعله، من غير محاسبة أو تعقيب، على الجميع أن يخضع لمعاييره في عسكرة المجتمع.
اختطف بروكرست - السيسي، وعلى مقاس سريره، كل المؤسسات، وجعلها تأتمر بأمره، 
وعلى هواه، وجعلها على مقاسه، بغض النظر عن وظائفها المقصودة، أو أدوارها المحدّدة. هو من يحدّد، وهو من يقيم، يعرض كل أحد على مقاس سريره. هكذا نرى جهاز القضاء، وبرلمانا اصطنعه على عينه، ومؤسسة عسكرية اختطفها، وصارت تحت إمرته كل الأجهزة الأمنية، لا يأبه لأحد، ولا يستمع لكائنٍ من كان. فقط هو يجلب الناس إلى سريره، ويحدّد المقاس المطلوب، وبمعايير قزميته، "إن لم تكن قزما فلتتقازم". ومن معايير سياساته، بدأ يغصب الناس على كل ما يريد، من دون أي اعتبار لمطالبهم أو احتياجاتهم، ها هو "بروكرست جديد" يمارس إجرامه، ويجعل كل المؤسسات على مقاسه. صارت رغباتُه هي القاعدة، وهواه هو، كما يتصوّر ويهوى، عين العدل الذي يريد، وانقلب أمر معظم تلك المؤسسات، وظل الجميع في حال إذعان، فمن يجرؤ على الكلام.
إذا أردت أن ترى سرير بروكرست في إعلانه، فعليك أن ترى تلك النظرية التي تبلغ إلى كل المصادر الإعلامية، صحافية كانت أو مرئية، فيتحدث الجميع بصوت واحد، وبخطاب واحد، بل ومفردات مفنطة منمطة، لا يؤدون إلا ما يُملى عليهم، وفق قرار سرير بروكرست الذي يفرضه على الكافّة، أليس هو القائل "متسمعوش لحد غيري".. هكذا ترى الإعلام في أسوأ حالاته، لا يأبه لأي أحد، ولا يحتكم إلى أي عقل أو رشد. حوّل الكل إلى متورّط، يفعل إجرامه، ويقيس كل شيء على مقاس سرير بروكرست السيسي. وإذا أردت أن ترى مشهدا آخر، مر علينا في انتخابات رئاسية، اختطف فيها كل المرشحين، وعرضهم على سريره، وقد حدّد إقامة أحدهم، ومنهم من حُبس ومنهم من سُجن، وما كان منه إلا أن يختار مرشحا ينافسه من اختياره، وعلى مقاس سريره الملعون. إنها الانتخابات الرئاسية التي لا يراها، فهو مخرجها، إنه سريره الملعون، على جميع الناس أن يُضبطوا على مقاسه، فإن رآه غير ذلك نكّل به. لا يمكنك أن تقول لأي شخص إن تلك انتخاباتٌ هي فقط كذلك في عصر السيسي، ليقيم انتخابات قسرية فاشية، على مقاس سريره الملعون.
قدّم بعضهم مبادرةً، أو نداء، استند لها إلى نص من دون علمه أو إذنه، ولم يره عبد الفتاح السيسي الذي لا يرى إلا أن هذا يحقق أغراض جماعة إرهابية، ويحرّض ضد الدولة. إنه لا يريد أي أحد أن يتخذ ويحدد عملا خارج مقاس سريره، أو كما حدّد هو من معايير. إنه سرير بروكرست الملعون، يحدّد كل أمر على مقاسه، لا يجعل لأحد من خيار، تُساعده في ذلك، وتعزف معزوفته، في منع أي كلام، أو أي نيةٍ فيه، وفي التأكيد على مقاس سريره بروكرست.
إنه أيضا في مشهد مؤتمرات الشباب المزيّفة يمارس كل معاييره في سرير بروكرست. يعرض 
على هذا السرير شبابا، فيُعدم بعضهم، أو يعتقل، أو يُطارد، أو يُصفّى جسديا، أو يختطف قسريا بعضا آخر. لا ينضبط هؤلاء على مقاس سريره، بينما مقاس شبابه الذي اصطنعه، وينفق عليه، يأتون من كل صوب وحدب إلى نفاقه، بالتصفيق والتهليل، يضحكون إن ضحك. هم في النهاية مسخ مشوّه، ينظرون إلى إشاراته، وإلى رغباته. هكذا مؤتمرات شبابه، وقد قتل أحلام شبابٍ ناهضٍ كثيرين، وأعدم كل بصيص من أمل. إنه يصادر كل من ليس على مقاسه، أو مقاس سريره. ها هو اختراعه الإرهاب المحتمل الذي يدفع به كل مخالف أو مختلف، فيقتل من يريد، ويعتقل من أراد.
حتى المؤسسة العسكرية لم تنج من سريره، فقد أقال وزير الدفاع، صدقي صبحي، الذي سانده ودعمه، لكنه لم يعد على مقاس سريره، فأقصاه ونحّاه، وأتى بمن على مقاسه، ليختطف مؤسسة الجيش، ويختطفها قسرا، ويحاول، من كل طريق، أن تخرج تلك المؤسسة عن طبيعة دورها، مغيرا عقيدتها، بل مصطنعا لها عدوا، فجعل من أمن الكيان الصهيوني أمنا لمصر، فقضم من سيناء ما أراد، وهجّر من أهلها، وفرّط فيها وفي جزرها، وقتل كل من ليس على مقاس سريره. تحولت مصر الوطن، فلم تعد مصر المحروسة، صارت مصر المخطوفة، فاعتقل المؤسسات واختطفها. اختطف الوطن، وأهدر مكانته، فصار في خطر، والمواطن على خطر، فهل يمكن أن نترك السيسي - بروكرست يتلاعب بالوطن بأسره، ويعرض كل شعبه على مقاس سريره الملعون.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".