السيسي سيعدل الدستور... يا للهول يا للمفاجأة!

08 يوليو 2018
+ الخط -
في حياة كل منا صديق مندهش يجعل الحياة أشد وطأة وأقل احتمالاً.
كان "التايم لاين" قد ازدحم يومها بأخبار الاعتداء على حفل إفطار رمضاني يضم بعض من تبقى خارج السجن من الوجوه المعارضة أو الممتعضة أو المستعدة لإعادة التأييد بعد توفر أي إصلاحات من أي نوع. كانت التدوينات التي تعلق على ما حدث مصحوبة بآراء متباينة عن السلطة المذعورة أو السلطة المسعورة أو السلطة المسعورة لأنها مذعورة أو السلطة المسيطرة التي يريحها أن تشعر أنها مذعورة أو السلطة التي تعيد التذكير ببطشها بشكل مجاني لتجعلك محتاراً في تحديد ما إذا كانت مسعورة أو مذعورة، وهي آراء تتكرر مع اختلاف التفاصيل، عقب كل جريمة يرتكبها نظام السيسي، لينخرط من ما زال لديه الوقت والصبر في النقاش حولها، لتضفي مناقشاتهم معنى على الجنون المحيط بالجميع، معنى لن يفسر الكثير، لكنه سيساهم في إضفاء معنى ما على وجودهم الإنساني، لأن الإنسان في لحظات استلاب الحرية وخنق المجال العام، يريحه أن يشعر أن لديه قدرة على إبداء رأيه في الأحداث الجارية، حتى لو كان ذلك في مجاله الخاص المغلق، وسط حسابه الشخصي وبين أصدقائه المقربين، وفي ظل ظروف كهذه، يستحمل الناس فيها بعضهم ويراعون الظرف الراهن، ويسألون الله لأنفسهم ومعارفهم السلامة، يطلع صاحبنا المندهش الأزلي مثل الضرطة الشاردة الحزينة، ليكتب كلاماً من نوعية "معقولة توصل للدرجة دي؟.. ليه ما يكونش اللي ورا الاعتداء ده بلطجية فعلاً بيتصرفوا من دماغهم ومصدقين إن دول خونة.. أصل النظام مصلحته إيه في فضيحة زي دي"، لتتغير طبيعة تعليقاته بتغير الأحداث، لكنها تظل دائماً مندهشة بشكل مدهش.

في العادة يجتذب كلام صاحبنا من أسميهم بالخلايا المندهشة النائمة، التي تجد في مثل هذا الكلام بعض الونس والعزاء اللازمَين للشعور بأنهم ما زالوا يعيشون في دولة، لا في غابة، لأن قمع الدولة مهما كان وحشياً، يجب أن يكون له منطق في رأي هؤلاء، لذلك يفترضون أن المسؤول الكبير حين يوجه أي أوامر بالقمع، يجتمع في البداية بمساعديه، لكي يبحثوا سوياً النتائج التي ستترتب على القرار القمعي، وبعد دراسة الحسنات والسيئات و"الويذ والأجينست"، يتفق معهم على اتخاذ القرار أو تأجيله أو استبعاده، وبناءاً على هذا التصور الافتراضي يرفع هؤلاء المندهشون شعار "أكيد فيه حاجة غلط.. مش معقولة توصل للدرجة دي"، حين يرتكب نظام السيسي جريمة مثل قتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني ثم قتل خمسة مواطنين عزل لتلبيسهم جريمة قتله، أو حين يقوم باعتقال شخصيات معروفة ببعدها عن العنف أو بعدائها لجماعة الإخوان خصم النظام، وفي سائر القرارات القمعية العشوائية التي يمكن لأي حساب عقلاني، أن يعتبرها خطوة خاسرة ستضر النظام سياسياً، أو في أقل تقدير ستجلب له صداعاً من الإعلام الدولي هو في غنى عنه.


ستجد هؤلاء المندهشين مثلاً يسارعون إلى طمأنة غيرهم حين تنتشر أخبار عن تفكير حكومة السيسي في نقل حديقة حيوانات الجيزة إلى العاصمة الإدارية الجديدة، لبيع أرضها لمستثمر إماراتي، وكالعادة ستسمع نغمة "مش معقولة توصل للدرجة دي"، مصحوبة بالكلام عن قيمة الحديقة التاريخية والتراثية التي لا يمكن للحكومة أن تفرط فيها، ويردد بعضهم كلاماً عن كون الحديقة مسجلة على قائمة التراث الأثري ليونسكو، وحين يكذب لهم آخرون صحة هذه المعلومة، يعودون للتأكيد أن الحكومة لن تجرؤ على تحدي الرأي العام وطعنه في سويداء قلبه المتعلق بالتراث، وحين يقول لهم البعض إنه ليس من الحكمة نفي ما يبدو متسقاً مع السياق العام للقرارات الحكومية وأن الحذر دائماً مطلوب مع نظام لا يلقي أي اعتبار لحياة الناس فضلاً عن مشاعرهم وتاريخهم، يعودون للاختباء وراء الاندهاش والتشكيك في المدى الإجرامي الذي يمكن أن يصل إليه نظام السيسي، متناسين أنهم ظلوا من قبل على مدى عام ونصف العام يكذبون كل ما يقال عن قيام نظام السيسي ببيع جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، بل إن بعضهم كان يتطوع للإفتاء بأن كل ما يحدث ليس سوى مناورة رسمها السيسي ببراعة، ليرمي الكرة في ملعب القضاء الذي سيصدر بالتأكيد حكماً يوجب الاحتفاظ بالجزيرتين، وعندها سيعتذر السيسي للسعودية بأن مصر دولة مؤسسات تحترم القضاء الشامخ، وبعد أن تم "الشمخ" على شموخ القضاء، انتقل هؤلاء إلى مرحلة الصمت الذي تقطعه أحياناً همهمات وغمغمات تتناثر فيها كلمات "معقولة.. مصلحة.. للدرجة دي.. ليه كده؟".

ستجد نشاطاً اندهاشياً محموماً من هؤلاء المندهشين في الفترة المقبلة، كلما جاءت سيرة تعديل الدستور من أجل إزالة باقي الخيوط الواهية التي تمنع السيسي من الانفراد بحكم مصر إلى أبده أو أبدها، بالطبع لا أفترض في السيسي البلاهة التي تجعله يتصور أنه كائن خالد لا تسري عليه قواعد الموت والفناء، لكنني أيضاً لا أفترض فيك البلاهة التي تجعلك تتصور أنه سيتخلى عن السلطة طوعاً، لكي تسري عليه قواعد الحكم في مصر التي لم تتغير منذ الأزل، والتي تفرض على الحاكم الجديد أن يحاول تأسيس شرعيته بفتح ملفات سابقه، وإظهار اختلافه عنه، فما بالك إذا كان ما يخاف السيسي من فتح ملفاته، جرائم ضد الإنسانية تستوجب الحكم عليه بالإعدام، حتى لو مثل أمام محكمة قضاتها أعضاء مؤسسون في حركة (لا للإعدام).

لذلك لا يمكن أن تلوم السيسي لو قام بتعديل الدستور لكي يضمن بقاءه في الحكم حتى آخر يوم في حياته، خاصة أنه حتى الآن بفعل فشله وتخبطه وكوارثه الاقتصادية، لم يتمكن من صنع مناخ سياسي كالذي صنعه أستاذه وملهمه فلاديمير بوتين، ليضمن في ظله تحقيق لعبة الانتقال الصوري للسلطة إلى شريك كرتوني مثل ميدفيديف، قبل أن تعود إليه ثانية بموافقة شعبية جارفة، وهو ما لا يتصوره كثير من المندهشين الذين ما زالوا ينتمون بجوارحهم إلى تلك الطائفة التي تقدس النصوص الدستورية، وتتخيل أن مجرد وضعها بين دفتي غلاف كتب عليه اسم (دستور جمهورية مصر العربية) سيمنحها حياة أبدية، ويجعلها ناراً مقدسة تحرق كل من يمسها بسوء.

ولأن هؤلاء المندهشين هم في العادة أصدقاء حميمون أو أقارب طيبون أو زملاء لا سبيل للتخلص منهم، فإنك تلتمس لهم العذر، لأنهم ما زالوا يرفضون الاعتراف بانتهاء قواعد اللعبة السياسية القديمة التي كانت تمارسها الدولة مع مواطنيها خلال الأربعين عاماً الماضية، وأنه لم يعد هناك مجال للمناورات والحيل والألاعيب والشد والجذب والضرب والملاقيّة والمسافدة مع تخبئة آلة الجماع والمرهمة قبل إنفاذ الخوازيق، وسائر حيل وتكنيكات الدولة المصرية العتيقة التي كانت تجعلها على الدوام تنفذ كل ما تريده، في نفس الوقت الذي يشعر فيه المواطن بأنه ما زال قادراً على الرفض وإبداء الرأي وإعلان وجوده.

وكل ذلك لم ينته فجأة في لمح البصر، بل بدأت نهايته منذ مذبحة ماسبيرو وما تلاها من مذابح متفاوتة الأشكال والضحايا، حيث أدركت الأجهزة الأمنية المختلفة أن القتل الجماعي والقمع المنظم يمكن أن يتم قبولهما بشكل شعبي، بدعوى الحفاظ على الدولة من السقوط، وأنها ستجد جهات وأحزاباً سياسية مختلفة الآراء والمشارب تشاركها في تبرير القتل والقمع، حين يكون ذلك في مصلحتها وحين تظن أن ذلك سيساعدها على التخلص من خصومها وهو ما تجلى في أبشع صوره وأحطها في مذبحة رابعة، التي يحلو لأعضاء وأنصار جماعة الإخوان - وقد كانوا ضحية سافرة لها بلا شك - أن يصوروها كأنها كانت بداية المطاف في مسلسل جرائم الدولة المصرية، متناسين كل ما قاد إليها من قبل من جرائم شاركوا في التغطية عليها وتبريرها.

كما يحلو للكثير من خصوم الإخوان أن يكابروا في الإقرار بفداحتها وخطورتها، وكونها حجر الأساس الذي قامت عليه دولة السيسي، وبالتالي فإن أي محاولة لتجاهلها، ولو من باب عدم مساعدة الإخوان على شرعنة مظلوميتهم واستغلالها سياسياً، لن يقود إلى فهم سليم للواقع، إذا كانوا حقاً جادين في رفضه وراغبين في تغييره، لأن أي رفض أو أمل في التغيير ينبني على خداع للنفس وعدم قراءة الواقع جيداً لن ينتج عنه إلا المزيد من نزيف الدم وإهانة الكرامة.

وإذا كان يصعب على العاقل أن يطالب الإخوان بالتخلي عن نظرتهم الضيقة للواقع التي تعتبر أن كل شيء بدأ في 30 يونيو وبالتالي يجب أن يعود إلى ما قبل 30 يونيو، فإن بوسعه أن يطالب من ليسوا مبتلين بكونهم أعضاء في طائفة مغلقة ضيقة الأفق، أن يتوقفوا أولاً عن الاندهاش، لأن تأثيره الضبابي الفتاك يحجب الرؤية ويشوش العقول، ولا أمل في تغيير واقع قبل فهمه وإدراك حقائقه جيداً، ولذلك عليهم أن يتذكروا أن الوضع القائم الآن في مصر مبني على دم أريق في الشوارع لمعارضين لم يكن يصبح التسامح مع قتلهم أياً كانت درجة رفضهم وكراهيتهم، وأن الملايين فرحوا وصفقوا لهذا القتل وبرروه وخاصموا فيه، وأنه إذا أجبرت الظروف العصيبة كل هؤلاء على أن ينسوا الدم، ليستأنفوا حياتهم، فلسوء الحظ، القاتل نفسه لن ينسى أبداً.

لذا لزم التنويه والرجاء الحار بالتوقف عن الاندهاش قبل أن نتحدث في أي شيء آخر.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.