السيرة النبوية.. تساؤلات التاريخ وممحاة ابن هشام

27 أكتوبر 2015
(مشهد من المدينة المنورة)
+ الخط -

تقف الثقافة العربية في منجزها المعرفي أمام إشكالية عسيرة هي إشكالية الجذور، أي الأصول التي بنيت عليها الثقافة العربية بأشكالها كافة، الفكرية، واللغوية، والتاريخية، والعلمية؛ إذ يظل القارئ لمدونة النص العربي أمام أسئلة صعبة، منها: ما هو الكتاب الأول المعرفي الطابع المكتوب باللغة العربية؟ وما هي جذور هذه المعارف التي نتناقلها اليوم بوصفها مقدسات ثقافية لا ينبغي إخضاعها لأي شكل من أشكال التساؤل؟

لا تشكل هذا أزمة في الثقافة العربية بقدر ما تفتح باباً من الأزمات شكلتها الكثير المؤلفات المتوالدة في التراث العربي على أساس لا نعرف عنه شيئاً، ولا نكاد نمسك له طرف خيط، فمجمل المعارف العربية اليوم قائمة على مؤلفات غامضة لا وجود مادي لها، وإنما يتم الاستناد إليها بوصفها كانت، وطمس أثرها مع كمٍ هائل من التاريخ الذي تتشكل صورته في مسار الحرب، والسلطة، والبطولات المزعومة في الشعر، والقتال، والنخوة، وغيرها.

لذلك يقف الباحث في واحدة من الأصول النصية للثقافة الإسلامية العربية أمام فراغ مترامي الأطراف، عندما يجري البحث في جذور السيرة النبوية التي تشكّل المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، فالعائد للسيرة يجد نفسه أمام سيرة ابن إسحاق الذي تنسب إليه كتابة السيرة، ولا يجد من هذه السيرة الأصلية سوى ما قدمه ابن هشام في سيرته المعروفة.

قد يكون ذلك عائقاً، وإشكالاً يفضي إلى الكثير من القضايا العالقة في الثقافة العربية، فهدم المنجزات الأصيلة وبناء بديلها، هو ثقافة إقصائية تتشكل في مناخ محكوم بالسلطة بصورها كافة، إذ ما قام به ابن هشام هو نموذج أصاب الكثير من المؤلفات التراثية الأولى، أو المركزية في تاريخ الثقافة العربية.

إلا أن خطورة ما قام به ابن هشام لا تشكّل خدشاً في الجدار المعرفي العربي، وإنما تشكّل كرة من الثلج ظلت تتدحرج منذ القرن الثاني الهجري حتى اليوم، حيث مثلت السيرة النبوية صيغة نصيّة مرجعيّة لكل من أراد قراءة التاريخ العربي الإسلامي، وخرج باجتهادات تشكّل اليوم جملاً عائمة منقولة في الإطار الثقافي الشفهي الذي يحكم العقلية العربية ويحدد سلوكها ووجهة نظرها تجاه قضايا الحياة المفصلية.

تبدأ الأسئلة بالتوالد والأجوبة بالخوف منذ التاريخ الذي كتبت فيه السيرة، إذ تروي حكاية ابن إسحاق في مشروع كتابته كما تقدمها سيرة ابن هشام في النسخة الصادرة بضبط  وتحقيق كل من مصطفى السقا، وإبراهيم الأبياري، وعبد الحفيظ شلبي، وبتقديم الدكتور حسين نصّار، تروي ما نصه:

"وشاءت الأقدار أن يدخل ابن إسحاق على المنصور ببغداد –وقيل بالحيرة- وبين يديه ابنه المهدي؛ فقال له المنصور: أتعرف من هذا يابن إسحاق؟ قال نعم، هذا ابن أمير المؤمنين؛ قال اذهب فصنف له كتاباً منذ خلق الله تعالى آدم عليه السلام إلى يومك هذا. فذهب ابن إسحاق، فصنف له هذا الكتاب، فقال له: لقد طولته يابن إسحاق، اذهب واختصره، وألقى الكتاب الكبير في خزانة أمير المؤمنين".

قبل التساؤل عن الحكاية، من هو ابن إسحاق، فهو المصدر الذي بنى لنا نصاً أخذه ابن هشام وصار اليوم سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

ابن إسحاق هو محمد  بن إسحاق بن يسار بن خيار، ولد في المدينة، كان جده يسار من سبي عين تمر، وهي قرية قديمة قرب الأنبار افتتحها المسلمون أيام أبو بكر على يد خالد بن الوليد. ولد ابن إسحاق في المدينة، ومما يتصل بشبابه ما حكاه ابن النديم من أن أمير المدينة رقى إليه أن محمداً يغازل النساء فأمر بإحضاره وضربه أسواطاً ونهاه عن الجلوس في مؤخرة المسجد، وقد ترك ابن إسحاق المدينة وترحل في أكثر من مدينة، ومما يروى من أخباره أن الإمام مالك ابن أنس كاد يخرجه من حظيرة المحدّثين، وأهل الصدق والثقة، ولا يدخر سعة في اتهامه بالكذب والدجل.

نعود إلى الحكاية ونترك الباب مشرعاً على سيرة ابن إسحاق، وقبل أن نتوقف عند الثقافة الشفاهية التي كانت تحكم التاريخ العربي يمكن التساؤل: هل يمكن لباحث وعلامة وفقيه أن يكتب تاريخ العرب منذ آدم حتى القرن الثاني الهجري مهما بلغت سعة معرفته، وتجاوزت حكمته معارف الأرض كلها؟ وهل يمكن قبل ذلك تتبع تاريخاً شفهياً يتجاوز عمره آلاف السنين؟ وإن كان يمكن، كم من الحذف والإضافة يمكنه أن يصيب هذا التاريخ المنقول في ذاكرة مئات البشر؟

تبقى الإجابة برسم المنطق ليس إلا، لكن المتأمل في حكاية ابن إسحاق، يجد خطاباً مباشراً للسلطة وأمراً بتدوين التاريخ، ثم يجد التدوين منصباً لخدمة الطفل الأمير، ابن السلطة، فما قام به ابن إسحاق وفق الروايات –مع كامل التحفظ- كان سرداً للتاريخ جاء تحت عنوان "المغازي"، وهو في ثلاثة أجزاء: المبتدأ، والمبعث، والمغازي، عالج فيه تاريخ الرسالات قبل الإسلام، وشباب النبي ونشاطه في مكة، وأخيراً الفترة المدنية.

ما فعله بعد ذلك ابن هشام وفق ما يسرده في سيرته أنه حذف كل ما كتب قبل الرسول، وألغى النصوص الشعرية المكتوبة في مدح وهجاء النبي، والكثير من الحكايات التي خشيَّ أن تثير خلافاً حول القبائل المعروفة، وهدم كل ما رآه لا يتناسب مع حياة النبي محمد، فلم يعد أمام التاريخ العربي بعد سيرة السلطات المتلاحقة تلك إلا هذه السيرة التي راحت تتشكل من جديد نظماً، وسرداً، وتوثيقاً، وغيره.

لا يشكل ذلك مزاجاً سلطوياً معرفياً يجعلنا أمام جملة من التساؤلات حول تاريخنا كله وحسب، بل يجعل السيرة النبوية نفسها، وكل ما بُني عليها من تشريعات قابل للتساؤل من جديد، فربما يكفي إعمال المنطق على سلالة النبي محمد التي ذكرها ابن هشام، والتي تضم خمسة وأربعين جداً تربط النبي بالإنسان الأول على الأرض، حيث لا يكاد الواحد منا اليوم وفي عصر التدوين الرقمي العثور على سلالته ما بعد الجد الخامس، فكيف لسيرة بشريّة مرت بعصور الرسم على الجدران قبل اللغة، أن توثّق خمسة وأربعين جداً؟

لا نحتاج بحثاً وتنقيباً على نص ابن إسحاق الأصلي، ولا نحتاج مراجعة لتاريخنا، وإنما أكثر ما نحتاجه اليوم في زمن الدم، هو كثير من التساؤلات الحاذقة التي تعيدنا إلى صورة أقرب ما تكون إلى المنطق وأبعد ما تكون عن السلطة وما شكلته من خرافة.


* كاتب من الأردن

اقرأ أيضاً: أبو يعرب المرزوقي.. استئناف مغامرة التفكير

المساهمون