01 أكتوبر 2022
السياسة ليست نجاسة ولا طهراً
بدأ ذلك اللاجئ السوري في دولة أوروبية يطلق اللعنات على جميع الأطراف في بلاده، على بشار المجرم، وعلى المعارضة المسلحة التي تقصف المدنيين مثل بشار، والمعارضة السياسية التي تنعم في الفنادق في الخارج، وشباب الثورة الأحمق الذي سلّم البلد للإرهاب، ثم لعن الدول العربية جميعاً، والدول الغربية جمعاء، من شارك ومن سكت، أميركا وتركيا ودول الخليج التي سلحت المعارضة، وروسيا وإيران التي سلحت بشار، وباقي الدول التي صمتت أمام ما يحدث، والضحية الوحيدة هي الشعب السوري المسكين.
للوهلة الأولى، قد يبدو حديثه المنمق جذّاباً، لكنه، في الواقع، لا يقدم سوى أحد أوجه ما أسميه "التطهرية السياسية"، والتي تتمثل في ذلك الهرب من السياسة التي يردّد أنها نجاسة، إلى ادعاءاتٍ مثاليةٍ تساوي بين كل الأطراف. الجميع مدنسون، لذلك الطاهر الوحيد هو من ابتعد عن المشهد، واكتفى بانتقاده بحكمة، مع الإحالة إلى كيان غامض اسمه "الشعب"، يتم التعامل معه كأنه قيمة نظرية مجردة، كأنه يتحدّث عن الأمانه أو الصدق، لا عن كيانٍ بشري يشمل داخله كل الأطياف التي صبّ عليها اللعنات قبل لحظات!
الظاهرة نفسها متكرّرة بالأسئلة السياسية الكبرى في مختلف الدول العربية، مثلاً نشهد الآن في مصر الموسم السنوي للشجارات التطهرية حول تحليل أحداث 30 يونيو.
لكن، للتطهرية السياسية وجه آخر، يأتي من جهةٍ عكسيةٍ، مثل تلك السورية التي التقيتها في لبنان، وكانت متمسّكةً بإصرار بأن كل ما حدث هو ثورة الشباب الطاهر ضد بشار المجرم، ولا شيء غير ذلك إطلاقاً، "داعش" نفسه لا وجود له أصلاً، بل تمثيلية من بشار أو الموساد، وأيضاً بدوره يتحدث عن كيانٍ غامض اسمه "الثوار"، وهو بالنسبة له كيان متجانس ثابت، لا توجد فيه اختلافات مطلقاً، كما أنه كيان ملائكي، لم يرتكب من ينتمي له أي جرائم أو أخطاء مطلقاً، ولديه قدرة على التعامل مع أي خطأ بالتبرير، أو نفي وجوده، أو نفي انتماء فاعله للكيان الملائكي.
الوجه الثالث للتطهرية السياسية أنها مشهدية ودرامية، فالثورة السورية، عند صديقنا الأول، يتم تقييمها على أساس الوضع البائس الحالي فقط، كأنه بدأ من العدم، ولم يحدث قبله أي شيء، بينما عند صديقتنا الثانية توقفت رؤيتها للأمور عند 2011 فقط، كأن الزمن تجمد، ولم يحدث بعدها أي شيء. وبالمثل، نشهد في مصر حالياً تركّز الخلاف حول يوم 30 يونيو بحد ذاته، كأنه لحظة سحرية منفصلة عن تدريج الأحداث وتفاعلاتها قبله وبعده.
وجه رابع للتطهرية هو تلك الحلول المبسطة للغاية لأي سؤال مركّب، فداعش صنيعة الموساد، والثورة المصرية كان محسوماً أن تفشل، لأن الجيش تآمر منذ اللحظة الأولى.
ما يحدث نتاج عقود طويلة من معاداة السياسة، سواء من الأنظمة العسكرية التي زرعت أن السياسي شخصٌ مخيفٌ يُعرّض من يقترب منه للأذى، أو هو عميلٌ ممول، أو مثقف متكبر معقد، وأيضاً من بعض التيارات الإسلامية التي دخلت السياسة بعقليات الدراويش وكتب التاريخ والرقائق، وهكذا نتجت فئات واسعة تعاني فهماً مشوّهاً للممارسة السياسية.
كان معتاداً للغاية أن تسمع من شباب الثورة في مصر عبارة "أنا لا أنتمي لأي حزب أو تيار سياسي"، كأنها تهمة مشينة.
بعد خمس سنوات من المخاض الطويل، آن الوقت لأن يدرك الجيل العربي الجديد دوره كفاعل سياسي مسؤول، لا يغرق بنوعي أوهام النجاسة أو الملائكية، وأن يدرك أن السياسة لا تُحاكم بعقلية الأبيض الناصع والأسود المطلق ولا شيء بينهما، وأنها تحتمل الاختيار بين الأسوأ والأقل سوءاً، واللعب على تناقضات الخصوم، وحسابات موازين القوى المحلية والعالمية.
الفاعل السياسي يجب أن يتعلم أيضاً أن التحولات الكبرى عملية طويلة ومركّبة ومعقدة، وتحوي التناقضات بمسارها، وتحتمل كل درجات النجاح والفشل أيضاً، لا شيء محسوما سوى الأمل.
للوهلة الأولى، قد يبدو حديثه المنمق جذّاباً، لكنه، في الواقع، لا يقدم سوى أحد أوجه ما أسميه "التطهرية السياسية"، والتي تتمثل في ذلك الهرب من السياسة التي يردّد أنها نجاسة، إلى ادعاءاتٍ مثاليةٍ تساوي بين كل الأطراف. الجميع مدنسون، لذلك الطاهر الوحيد هو من ابتعد عن المشهد، واكتفى بانتقاده بحكمة، مع الإحالة إلى كيان غامض اسمه "الشعب"، يتم التعامل معه كأنه قيمة نظرية مجردة، كأنه يتحدّث عن الأمانه أو الصدق، لا عن كيانٍ بشري يشمل داخله كل الأطياف التي صبّ عليها اللعنات قبل لحظات!
الظاهرة نفسها متكرّرة بالأسئلة السياسية الكبرى في مختلف الدول العربية، مثلاً نشهد الآن في مصر الموسم السنوي للشجارات التطهرية حول تحليل أحداث 30 يونيو.
لكن، للتطهرية السياسية وجه آخر، يأتي من جهةٍ عكسيةٍ، مثل تلك السورية التي التقيتها في لبنان، وكانت متمسّكةً بإصرار بأن كل ما حدث هو ثورة الشباب الطاهر ضد بشار المجرم، ولا شيء غير ذلك إطلاقاً، "داعش" نفسه لا وجود له أصلاً، بل تمثيلية من بشار أو الموساد، وأيضاً بدوره يتحدث عن كيانٍ غامض اسمه "الثوار"، وهو بالنسبة له كيان متجانس ثابت، لا توجد فيه اختلافات مطلقاً، كما أنه كيان ملائكي، لم يرتكب من ينتمي له أي جرائم أو أخطاء مطلقاً، ولديه قدرة على التعامل مع أي خطأ بالتبرير، أو نفي وجوده، أو نفي انتماء فاعله للكيان الملائكي.
الوجه الثالث للتطهرية السياسية أنها مشهدية ودرامية، فالثورة السورية، عند صديقنا الأول، يتم تقييمها على أساس الوضع البائس الحالي فقط، كأنه بدأ من العدم، ولم يحدث قبله أي شيء، بينما عند صديقتنا الثانية توقفت رؤيتها للأمور عند 2011 فقط، كأن الزمن تجمد، ولم يحدث بعدها أي شيء. وبالمثل، نشهد في مصر حالياً تركّز الخلاف حول يوم 30 يونيو بحد ذاته، كأنه لحظة سحرية منفصلة عن تدريج الأحداث وتفاعلاتها قبله وبعده.
وجه رابع للتطهرية هو تلك الحلول المبسطة للغاية لأي سؤال مركّب، فداعش صنيعة الموساد، والثورة المصرية كان محسوماً أن تفشل، لأن الجيش تآمر منذ اللحظة الأولى.
ما يحدث نتاج عقود طويلة من معاداة السياسة، سواء من الأنظمة العسكرية التي زرعت أن السياسي شخصٌ مخيفٌ يُعرّض من يقترب منه للأذى، أو هو عميلٌ ممول، أو مثقف متكبر معقد، وأيضاً من بعض التيارات الإسلامية التي دخلت السياسة بعقليات الدراويش وكتب التاريخ والرقائق، وهكذا نتجت فئات واسعة تعاني فهماً مشوّهاً للممارسة السياسية.
كان معتاداً للغاية أن تسمع من شباب الثورة في مصر عبارة "أنا لا أنتمي لأي حزب أو تيار سياسي"، كأنها تهمة مشينة.
بعد خمس سنوات من المخاض الطويل، آن الوقت لأن يدرك الجيل العربي الجديد دوره كفاعل سياسي مسؤول، لا يغرق بنوعي أوهام النجاسة أو الملائكية، وأن يدرك أن السياسة لا تُحاكم بعقلية الأبيض الناصع والأسود المطلق ولا شيء بينهما، وأنها تحتمل الاختيار بين الأسوأ والأقل سوءاً، واللعب على تناقضات الخصوم، وحسابات موازين القوى المحلية والعالمية.
الفاعل السياسي يجب أن يتعلم أيضاً أن التحولات الكبرى عملية طويلة ومركّبة ومعقدة، وتحوي التناقضات بمسارها، وتحتمل كل درجات النجاح والفشل أيضاً، لا شيء محسوما سوى الأمل.