بدأت فرنسا في الأيام الأخيرة تغيير لهجتها إزاء قضية اللاجئين الهاربين من الحروب، وهي التي كانت حتى وقت قريب تشهر سياسة الحزم تجاه اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين وتتبنى مقاربة أمنية بحتة إزاءهم. وبدا ذلك واضحاً في الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس، الأحد الماضي في ختام أعمال الجامعة الصيفية للحزب الاشتراكي الحاكم، حين أكد "ضرورة التحلّي بالمسؤولية والرؤية الإنسانية" تجاه المهاجرين وواجب استقبال وإيواء "الأشخاص الذين يهربون من الحروب والقمع والتعذيب والأنظمة الديكتاتورية".
وفي الخطاب نفسه، ثمّن فالس مواقف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تجاه أزمة المهاجرين، في بادرة تعكس الحرص الفرنسي على ألا تظهر فرنسا أقل إنسانية من جارتها الألمانية، وكأنها تتنكر للمبادئ الإنسانية الكونية التي ترفعها كشعار للجمهورية الفرنسية. وذهب فالس حد دعوة اليمين الفرنسي إلى عدم الانجرار وراء طروحات اليمين المتطرف المعادية للأجانب والمهاجرين.
وغداة هذا الخطاب، قام فالس لأول مرة بزيارة مدينة كاليه عند الحدود الشمالية مع بريطانيا، والتي تحوّلت في الشهور الأخيرة إلى رمز لأزمة الهجرة في فرنسا، لكونها نقطة عبور أساسية لآلاف المهاجرين الذين يصلون أوروبا عبر السواحل الإيطالية ويرغبون في اللجوء إلى بريطانيا. وباتت مدينة كاليه كابوساً يقض مضجع السلطات الفرنسية والبريطانية أمام تصاعد محاولات التسلل إلى الأراضي البريطانية عبر قطار "يوروستار" وعبر مرفأ المدينة، وبلغت محاولات التسلل ألفي محاولة في الليلة الواحدة الشهر الماضي، وتوفي 11 مهاجراً في هذه المحاولات. واتخذت فرنسا وبريطانيا تدابير أمنية مكثّفة لمنع محاولات التسلل وقمع المتسللين، في حين دعت الأمم المتحدة البلدين إلى تبنّي مقاربة إنسانية تجاه المهاجرين والتعامل مع الأزمة وكأنها كارثة طبيعية.
وتماشياً مع النموذج الألماني، اتجهت الحكومة الفرنسية إلى ليونة أكبر في تعاملها مع تجمّعات المهاجرين واللاجئين في كاليه، وأعلنت عزمها تنظيم الدعم لهؤلاء عبر تشييد مراكز إيواء وتسريع عمليات دراسة ملفات اللجوء. إلا أن هذه التدابير تبقى في الواقع أقل بكثير مما تستطيع فرنسا فعله، ذلك أنها لن تمنح اللجوء هذا العام سوى لحوالى 60 ألف شخص مقابل 800 ألف شخص تستعد ألمانيا لمنحهم حق اللجوء على أراضيها. وعلى الرغم من هذا التحوّل في الخطاب الرسمي، بادرت عدة جمعيات إنسانية تعمل في مساندة المهاجرين في مدينة كاليه وضواحيها، إلى انتقاد الحكومة، واعتبرت زيارة فالس وتصريحاته مجرد "تمرين شفهي في التواصل" ويتناقض تماماً مع السياسة الأمنية المتشددة تجاه المهاجرين على أرض الواقع في منطقة كاليه وأيضاً في محيط مدينة فانتيميلي عند الحدود الفرنسية الإيطالية، حيث تقوم الشرطة الفرنسية بمنع مئات المهاجرين من دخول الأراضي الفرنسية وتستعمل القوة المفرطة لصدهم.
اقرأ أيضاً: أوروبا واللاجئون... أزمة تتفاقم وحلول تنتظر التوافق
وإضافة إلى فالس، دخل وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس على الخط الأحد الماضي، ووجّه انتقادات شديدة اللهجة إلى هنغاريا بسبب بنائها جداراً عازلاً من الأسلاك الشائكة على الحدود مع صربيا لمنع المهاجرين وغالبيتهم من السوريين، من دخول أراضيها. واعتبر فابيوس أن "أوروبا لها مبادئ معينة، واحترام هذه المبادئ لا يتم عبر إقامة الأسلاك الشائكة على الحدود".
وتعتزم فرنسا الوقوف إلى جانب ألمانيا في دعوة بلدان الاتحاد الأوروبي إلى سياسة أكثر انسانية إزاء تدفق المهاجرين خلال الاجتماع الاستثنائي للاتحاد الأوروبي الذي سيُعقد في 14 من الشهر الحالي في بروكسيل، ويحضره وزراء العدل والداخلية في بلدان الاتحاد للبحث في سبل مواجهة أزمة المهاجرين واللاجئين. ومن المقرر أن تحتضن باريس اجتماعاً تحضيرياً لهذه القمة الأسبوع المقبل دعا إليه وزير الداخلية الفرنسي برنار كازنوف، وسيكون موضوعه الأساسي اتخاذ اجراءات فورية منها إقامة مراكز إيواء أوروبية في اليونان وإيطاليا.
وعلى الرغم من التراجع الملحوظ في الخطاب الفرنسي إزاء مسألة الهجرة، فلا تزال باريس تصر على التفريق بين صنفين من المهاجرين غير الشرعيين. فهي ترى بأنه لا يجب التساهل مع المهاجرين الاقتصاديين الذين يبحثون عن العمل والاستفادة من الامتيازات الاجتماعية في دول الاتحاد الأوروبي، فيما تميّز عنهم اللاجئين الذي يهربون من الحروب والاضطهاد. وحسب أرقام الداخلية الفرنسية، فإن حوالى 60 في المائة من المهاجرين غير الشرعيين وطالبي اللجوء هم في الواقع مهاجرون اقتصاديون لا يتمتعون بشروط اللجوء.
في المقابل، تبدي فرنسا حماساً كبيراً لاستقبال وإيواء الأقليات المسيحية في الشرق العربي التي تتعرض للاضطهاد، خصوصاً في العراق وسورية على يد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). وتُنظّم وزارة الخارجية الفرنسية في الثامن من الشهر الحالي مؤتمراً دولياً في باريس حول الاضطهاد الذي تتعرض له الأقليات المسيحية في المشرق العربي. وتساهم في المؤتمر 60 دولة من بينها الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وأيضاً الأردن ومصر ولبنان.
اقرأ أيضاً: لوموند: 31 ألف شخص قضوا أثناء محاولتهم الوصول لأوروبا