السوق السوداء للعملة ... "مصيبة" الجزائر

02 يوليو 2018
الجزائريون أكثر المتضررين من انخفاض قيمة عملتهم (Getty)
+ الخط -
تزدهر السوق السوداء لتصريف العملة الصعبة في الجزائر نتيجة تهافت المواطنين عليها بعدما أغلقت البنوك أبوابها في وجوههم واستحال عليهم الحصول على النقد الأجنبي بالطرق الرسمية، وتستمر تلك السوق السوداء في التوسع والنمو رغم الحظر القانوني لها، حتى أصبح يطلق على ساحة بورسعيد، المشهورة بتحويل العملات، اسم "البورصة غير الرسمية".

وتعتبر تلك الساحة مكانا لتوجيه التكهنات والتوقعات حول سعر صرف العملات الأجنبية مقابل الدينار الجزائري إما لرفعه في مواسم الحج والسفر أوخفضه خدمة لاحتياجات بارونات السوق الموازية.

ولا يخفى على أحد أن هناك فجوة كبيرة ومتزايدة بين أسعار العملات الأجنبية مقابل الدينار في السوقين الرسمي وغير الرسمي، ففي السوق الرسمية ووفقاً لأسعار بنك الجزائر المركزي، يتم تبادل اليورو مقابل 136.81 دينارا للبيع و136.77 دينارا للشراء، والدولار 116.53 دينارا للبيع و116.52 دينارا للشراء، بينما تلتهب تلك الأسعار وتتهاوى قيمة الدينار في السوق الموازية حيث يتم تبادل اليورو الواحد مقابل 212 دينارا للبيع و211 دينارا للشراء، والدولار 181 دينارا للبيع و180 دينارا للشراء.
تدهور الدينار في السوق الموازية ما هو إلا صورة تعكس القيمة الحقيقية للعملة الجزائرية ودليل يكشف أن القيمة الرسمية المحددة لهذا الدينار لا تعبر عنه بتاتًا. وفي ظل هذا الواقع لا يسع السلطات إلا إحكام قبضة الرقابة والتصدي لظاهرة الاستيراد الوهمي، لأن التهاون في المتابعة وغياب الرقابة الصارمة سيمكنان المستوردين ورجال الأعمال من الحصول على مبالغ مالية من العملة الصعبة بطريقة رسمية وتحويلها في السوق السوداء، وبذلك سيستفيدون من ربح مهم دون أي جهد أوعناء. 

يطيع سعر الصرف الموازي القوى الخفية للسوق السوداء، كالعرض والطلب، اللذين يتأثران بموسم الصيف الذي ينعش السياحة إلى الخارج، وكذا عودة المغتربين ومواسم الحج والعمرة، حيث تعتبر السوق السوداء الملجأ الوحيد للراغبين بشراء العملات الأجنبية، وخاصة مع القيمة الزهيدة والمهينة للمنحة السياحية التي تقدمها البنوك للجزائريين المسافرين إلى الخارج مرة واحدة سنوياً والتي تقدر بـ100 يورو ولا تسد تكاليف يوم واحد في أوروبا مثلا، في الوقت الذي يحصل فيه المغربي على 3500 يورو والتونسي على 3000 يورو.

ويصطدم الجزائري بعراقيل بيروقراطية كما يهدر قدرا كبيرا من وقته في سبيل الحصول على تلك المنحة التي تعتبر من أدنى المنح السياحية المقدمة في العالم العربي بحجج الإيرادات المتقلبة للنفط والغاز المصدر الرئيسي للعملة الصعبة في الجزائر، إضافة إلى الأزمة المالية الخانقة التي يتخبط فيها الاقتصاد الجزائري منذ سنة 2014 وانهيار احتياطي الصرف ووصوله إلى 97.3 مليار دولار بنهاية العام 2017.

وكان المواطن يحصل قبل ذلك، خاصة في زمن الرخاء المالي، على منحة اكبر بكثير، وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدل على سوء تسيير العملة الصعبة في الجزائر. ويبقى المغزى من تقديم تلك المنحة تزايد تهافت الجزائري على السوق السوداء ومنحه حق القول إن حكومته تمنحه منحة سياحية.
كما بات غياب مكاتب رسمية لصرف العملات في الجزائر هماً يزيد من معاناة الجزائريين ويؤرق الأجانب الزائرين، فبالرغم من الضوء الأخضر الذي منحته الحكومة لفتح مكاتب صرافة رسمية، إلا أن نسبة الفائدة الضئيلة والمقدرة بـ1% لا تكفي لإغراء المستثمرين بإنشاء تلك المكاتب التي سيكون مصيرها الخسارة والإغلاق لعدم قدرتها على مقاومة الربح الكبير الذي تعرضه السوق السوداء. 

يؤكد العارفون بخبايا السوق السوداء أن هناك عدة عوامل تلعب دوراً كبيراً في تحديد سعر الصرف الموازي للعملات الأجنبية الهامة، كاليورو والدولار، من بينها سوق الصرف الرسمي، سعر صرف اليورو أمام الدولار في الأسواق العالمية، ارتفاع الرسم على القيمة المضافة بـ2%، الرسوم والحقوق الجمركية الأخرى، هامش الربح، الظروف الاقتصادية في البلاد، وكذا الإشاعات والقرارات الرسمية حول خفض قيمة الدينار وتشديد الرقابة على عمليات تحويل الأموال للخارج.

وتتغذى السوق السوداء لتجارة العملة الصعبة أساساً على تحويلات المهاجرين الجزائريين وتعاملات الأفراد الذين يستلمون معاشات تقاعدية من الخارج، ولا سيما من الدول الأوروبية. وحسب البنك الدولي، بلغت التحويلات التي تستقبلها الجزائر من مهاجريها 2.093 مليار دولار في 2017.

لكن تخلف النظام البنكي واتساع السوق السوداء يحرمان الاقتصاد من الاستفادة من التحويلات المالية للجالية المقيمة في الخارج، وهكذا ينتهي المطاف بتلك التحويلات في السوق السوداء لما تقدمه من ربح كبير للمتعاملين فيها.

وهنا تتضح السياسة المغلوطة التي انتهجتها الحكومة عندما حددت سعر صرف شبه ثابت للدولار الواحد بـ108 دنانير، ما بين الفترة من 2017 وحتى 2019 بغية زرع الثقة في نفوس المستثمرين وطمأنتهم باستقرار الدينار، متجاهلة بذلك سعر صرف الدولار مقابل الدينار في السوق الموازي، وهي الطريقة نفسها التي حددت بها سعرا مرجعيا للنفط لا يمت للواقع بصلة، ما جعل ميزانية الدولة ضحية انهيار أسعار النفط العالمية.
تأخر الجزائر في تنفيذ الإصلاحات المصرفية جعل تداعيات الأزمة النفطية والاقتصادية أكثر تعقيداً واستعصاءً على الحل، فمثلا تلك "التعليمة" الأخيرة الصادرة عن بنك الجزائر في يونيو/ حزيران 2018 والتي تسهل دخول العملات الأجنبية والتعامل بها عبر الحسابات البنكية كانت لتكون أكثر فعالية في تحصيل مبالغ كبيرة من العملات الأجنبية المتداولة في السوق السوداء لو جاءت ودخلت حيز التنفيذ قبل سنوات. 

وطبعا هذه التعليمات جاءت كمحاولة بائسة من أجل استقطاب العملة الصعبة لتغذية الخزينة العمومية، ولا سيما في ظل الأزمة الاقتصادية الحالكة التي طال أمدها، ولكن من جهة أخرى فإن هذه التعليمة قد تشجّع بشكل أكبر جرائم تبييض الأموال نتيجة عدم مساءلة المودعين عن مصادر تلك العملات الصعبة.

الغريب في الأمر أن الحكومة تستمر في غض البصر عن التدهور الذي وصل إليه الدينار في السوق الموازية دون أن تحرك ساكنا وكأنها استسلمت للفشل في القضاء على تلك السوق، وخاصة أن مقدار الربح المحقق من المعاملات في هذه السوق لا يخدم القوة الشرائية للمواطنين ولا يفيد الدينار ولا الاقتصاد الوطني، ورغم ذلك تستمر الأوهام الاقتصادية وأحلام اليقظة المتعلقة ببناء اقتصاد مستقل عن النفط بحلول عام 2030.

ولكي تتجسد تلك الأحلام على أرض الواقع ينبغي على الحكومة التعجيل في كبح جماح السوق الموازية واستقطاب الأموال المتداولة فيها من خلال الإسراع في فتح مكاتب الصرف ومنحها هامش ربح أكبر، بالإضافة إلى حرمان السوق السوداء من اللجوء الاضطراري للمواطنين إليها بغرض الدراسة والعلاج والحج من خلال تمكينهم من الحصول على العملة الصعبة عبر القنوات الرسمية.

أما على المدى الطويل، فينبغي توجيه السياسات الملائمة التي من شأنها تعزيز العرض المحلي من السلع والخدمات، وﺗﺤﺴﻴﻦ اﻟﻘﺪرة اﻟﺘﻨﺎﻓﺴﻴﺔ ﻟﻠﻤﺆﺳﺴﺎت اﻟﺼﻐﻴﺮة واﻟﻤﺘﻮﺳﻄﺔ اﻟﺠﺰاﺋﺮية وتشجيع استقطاب المزيد من رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية، فتلك الإجراءات ليس من شأنها فقط وقف نزيف الدينار، بل أيضا تقليص رقعة السوق السوداء لتجارة العملات الأجنبية في البلاد.
المساهمون