السوشيال ميديا بعد 30 سنة

09 مارس 2017
+ الخط -
سيكتب مؤرخ غاضب ساخط: لنتصوّر أنّ ألف شخص وضعوا في قاعة، وأعطي كلّ واحد منهم ميكروفونا، وتكلّموا كلّهم في وقت واحد، من سيسمع من؟ وكيف سيكون التفاهم؟
هذا هو حال "السوشيال ميديا"، دشّنت مواقع التواصل مرحلة من عمر الشعوب العربية، كثرت فيها الإتهامات والشتائم والسجالات الفارغة، بلا تغيير حقيقي على مستوى فكري، بل وهماً زائفاً بوجود مساحة للتعبير (المحسوب أيضاً) استفادت منها السلطات في تفريغ إحباطات الناس.
ولكن آخر يؤمن بالأفكار الإيجابية سيسارع للرد على ما قاله المؤرخ الساخط في مقال عريض "الإتهام الذي يكال لمواقع التواصل في أنّها أسهمت في تردّي أحوال الأمة ما هي إلا إفتراء ونظرة حاقدة، نعم كانت هناك فوضى في المنشورات اللامسؤولة والإشاعات، وقلة وعي منتشرة، خصوصاً فيما يتعلّق بالتعاطي مع الأخبار، لكن كان هناك جانب مشرق يتجسّد في الشباب والفتيات المتحمسين للقضايا الكبرى الذين أظهرتهم مواقع التواصل ورفعت من شعبيتهم، وساهموا في إثارة حوارات تخص حقوق الانسان والأوضاع السياسية".
بينما سيؤكد آخر في أطروحة دكتوراة أحصى فيها نسبة اللايكات على صورة لجميلة أو لفكاهة سياسية مقذعة أنّ مواقع التواصل كانت بلا شك (قهوة) المواطن الغلبان الذي لا يملك الوقت، ولا المال، للجلوس في مقهى، فتحولت جلسته الأثيرة إلى الصوفا المريحة، يدخن الأرجيلة، وعلى حضنه الموبايل، يقلّبه على آخر الأخبار وفيديوهات خطابات المقاومة ومذابح "داعش"، ويكتب، من وقت إلى آخر، تعليقاً يعبّر فيه عن آخر التحليلات السياسية التي عنت بباله بعد استقرائه الوضع من فوق (الكنبة)، أو الست الغلبانة التي لا تتجاوز حدود حياتها البيت وسواليف نساء الحارة، فوجدت في "فيسبوك" والانستغرام فرصة سانحة للتلصص والتعرف إلى من خطبت، ومن ولدت وآخر نكتة...معللاً (الباحث) هذا الوضع بأنّ المواطن العربي أحاطت به البلاوي، حيثما دار، الاقتصاد كان في الحضيض، واجتماعيا كانت الشعوب تتجه للتفكك وفقدان الثقة ببعضها والتوتر لدى أي استفزاز، فكانت مواقع التواصل مساحة هائلة لمن يريد قضاء وقته كيفما اتفق، أو تمضية هذا العمر الذاهب إلى الأسوأ لا محالة.
وفي غرفة أنيقة، سيحتد الجد في نقاشه مع الحفيد الثائرعلى صمت الأجيال السابقة، لينفي عن نفسه التهمة: "والله يا إبني كنت (بوبليك فيغر)، كان عندي 100 ( فولورز)، كنت اكتب أشياء تخطر ببالي قبل ما أنام، أصحى الصبح ألاقي الدنيا مولعة، والكل بينشر اللي حكيتو تقول رئيس دولة... تخيّل أنو صرت ما أحب أطلع، لأنها كانت الناس توقفني في الشارع عشان يتصوّروا معي؟ لحدّ ما طلعلي واحد وحطني براسه حتى سكرت صفحتي ورجعتها بعدين بس ما رجعت زي الأول".
ولن يكف صحفي كبير عن التأكيد أنّ "السوشيال ميديا" كانت ضربة قاضية لوسائل الإعلام التقليدية، فالأخبار والتحديثات عليها انتقلت إلى المواقع من المواطنين، على أرض الحدث والناشطين المتابعين للشأن الذين لهم صلات، وصار الإعتماد عليهم، في بعض الأحيان، أكثر من الصحفيين العاملين في المهنة. أما المبادئ الصحفية، فقد أوشكت على الإنقراض، فابتداء من الإشاعات والأخبار المغلوطة بلا ضابط من "مواطنين صحفيين هواة وسرعة انتشارها عبر "المراسلين المتطوعين" من مستخدمي المواقع إلى جحافل المحلّلين الاستراتيجيين، وهم كلّ مستخدم تقريباً، إلى حروب الشتم والتكفير والتخوين بديلا عن مناقشة الخبر وتداعياته. لذا، كانت تلك المرحلة تراجعاً ساحقاً للصحافة، بصورتها المعروفة، إلا أنّها (كما يردف الصحفي الكبير) ساعدت في إيجاد إعلام بديل عن إعلام الحكومة، أسهم في إيصال صوت الشارع، لكن هذا الإعلام البديل للأسف لم يكن كافياً ليصنع فارقاً حقيقياً في الأحداث، ووعي الجمهور، إبان تلك الفترة التاريخية.
وسيكتب ناشط سابق في مذكراته عن أيام نشاطه الحافل في العالم الأفتراضي أنّ ضغوطا من القوى العظمى على مؤسسي شبكات التواصل ومديريها أسهمت في زيادة القيود على استخدامها وزيادة الرقابة على ما ينشر، وأسهم هذا في تراجع نسب المستخدمين، لأنّ المواقع لم تعد ساحة مفتوحة لكلّ شيء، كما كانت في السابق، وقلت المتعة من تصفحها جرّاء ذلك، وزاد الطين بلة اتجاه حكومات نحو فرض الرسوم على استخدام مواقع التواصل الشهيرة، وطمعت إدارة الشبكات في جني مزيد من الأرباح، عن طريق إتاحة الفرصة للاعلانات كثيرة للظهور، فأحجمت نسبة عريضة عن استعمال تلك المواقع، واتجهت إلى تطبيقات الألعاب المتطوّرة، فهي أكثر متعة وأقل "وجعا للدماغ".
67B42355-D1FA-40DB-B858-A9CFB2846052
67B42355-D1FA-40DB-B858-A9CFB2846052
مريم تولتش (البوسنة)
مريم تولتش (البوسنة)