السود في مواجهة السلطة: صراع على أميركا جديدة

14 يوليو 2016
(الأمن يحاصر مناهضين للعنصرية في مدينة ممفيس الأميركية، 1968)
+ الخط -

في أحداث دالاس الأخيرة التي سقط فيها قتلى من أفراد الشرطة الأميركية والمواطنين السود أيضاً، بدا الإصرار واضحاً من قبل الفاعلين الأساسيين في الحياة السياسية على إبقاء القضية محصورة في جانبها الحقوقي، من دون الخوض في تشابكاتها الاجتماعية والثقافية.

لم تشهد البشرية علاقةً أكثر تعقيداً بين مستعمِر ومستعمَر مثل تلك التي عاشها "الأفارقة العبيد" الذين أُخرجوا من أوطانهم ليعملوا بالسُخرة قسراً لدى الرجل الأبيض الأوروبي، الذي يحيا في الولايات المتحدة، خارج أرضه أيضاً، لتتكرّس معادلة بمنتهى الغرابة والقسوة؛ قوة استعمارية لن تغادر مستعمرتها ومستعمَرين لن يعودوا إلى بلادهم الأصلية، وربما ذلك ما يفسّر تراكم العنف وحدّته بين الطرفين.

الطرف الأضعف استشعر باكراً محدودية خياراته السياسية وحتى الوجودية، فما كان من الفيلسوف والتربوي ألين ليروي لوك (1885- 1954)، وهو أول أميركي أفريقي ينال شهادة عليا، أن طرح منذ عشرينيات القرن الماضي إقامة وطن أميركي جديد، انطلاقاً من حركته الشهيرة التي تحمل عنوان أطروحته المؤسِسة "حركة الوعي بالهوية الثقافية الجديدة".

في المقابل، مرّ الطرف الأقوى بمخاض يؤشر على فرط عدوانيته وأنانيته، فانقسم إلى حكومات الشمال التي أيّدت منْح حقوق للسود بغية إدماجهم بالمعنى البدائي المتمثّل في الاعتراف بهم كمكوّن مقابل ولائهم التام والمطلق، وبين حكومات الجنوب التي رفضت هذا التفاهم، ما أدى إلى نشوب حرب أهلية (1861- 1865) انتهت بانتصار المعسكر الأول.

لم ينته هذا الانقسام داخل المؤسسة الحاكمة، وإن تطوّرت أدواته وتهذّب خطابه، ويدلّ عليه انقسام الرأي الأميركي بين فريقين عقب أحداث دالاس الأخيرة؛ الأول يؤيد فرض الأمن ويعلي من قيمة وجود قيادة قوية وحاسمة في إحالة إلى بنية النظام قبل إنهاء قوانين التمييز العنصري في سبعينيات القرن الماضي، والثاني ينتقد على خجل تصرفات الأمن ويدعم قيام تظاهرات مدنية سلمية، في محاولة فاشلة للتأكيد بأن هناك مواطنين سوداً جيدين ومخلصين ولو طلبوا التغيير.

تجاهل فاضح لمسيرة السود خلال قرن مضى، حيث ولّد الألم والقهر "الأسود" تطويراً نوعياً للحداثة الأميركية، بل ربما خلقا لها طعمها ومذاقها الخاص، من غير أن يخسروا تمرّدهم أو خصوصيتهم في تلك "الثقافة الجديدة" التي ينشدون الانتماء إليها، وأن الشخصيات الأفريقية التي صنّعتها السلطة لم تجد قبولاً لها لدى السود.

عشرات الشخصيات من "الأفارقة" أحدثت فرقاً هائلاً في المجتمع الأميركي، فلن ينسى أحد أن مايكل جاكسون لم يكن ظاهرة عابرةً، فللمرة الأولى يتزاحم أميركيون، جلّهم من "البيض"، لحضور حفلات مغنٍ لا يؤمن بأميركا تحترمه فحسب، بل يريدها أن تتحول إلى جوقة تعيد إنشاد أغانيه من خلفه.

تكسير الحواجز هي "لعبة سوداء" بامتياز، وربما لم يعد مفاجئاً حضورهم في معظم التيارات الاجتماعية المناهضة للتقاليد والأعراف، سواء النسوية واليسارية والحقوقية والمثلية، لكن التأثير الأكبر تمثّل بقدرتهم على تحويل "العام" بشعاراته وأهدافه الكبرى إلى مادة للأدب والفن والموسيقى تمكّنها من الانتشار الواسع.

الأمر ليس بهذا التبسيط أيضاً، فقد قامت المؤسسة الأميركية وأجهزتها وعصابات المافيا بتسليع "الثقافة الأفريقية" عبر محاولات دعمها لفرق موسيقية ومسرحية وحتى لناشرين وكتّاب من أجل تكريس نمط من "الذكورة الخارجة على القانون" كتعبير عن واقع السود بافتراضه تحالفاً بين عالمين: الفقر والجريمة.

صراع ثقافي معقد تخوضه مؤسسة الحكم الأميركية بذهنية المتفوق، غير منتبهة إلى أن السود يعيدون إنتاج نمط حياة وثقافة بالسينما والموسيقى والأدب وحتى بالطب والقانون ومناحٍ أخرى دون أن تأخذهم نوازع انتقامية؛ إنه صراع على أميركا بين مستعمِر شاخ ومستعمَر يتجدد شبابه قد يبني مجتمعاً جديداً أو يدفع به نحو الانهيار.

المساهمون