السودان ورياح التغيير

15 مارس 2019
+ الخط -
سحب ضبابية تخيم على المشهد السوداني، ومآلات مفتوحة أمام كل التوقعات، نذر تغيير بانت معالمه يلح عليه الواقع الاقتصادي المتردي، يستصغره الساسة ويقللون من تأثيره سياسياً، في حين تموج الشوارع وتهدر غضباً وسخطاً يتعالى أواره في عنان السماء، وتزداد فوهة بركانه اتساعاً يوماً تِلو الآخر. فما هي الظروف التي شكلت هذا الحراك الذي يحمل شعلة التغيير؟
بدأت المشكلة اقتصادية، وكانت المطالب الشعبية ضئيلة، خبزاً ووقوداً ومعاشاً كريماً لا أكثر، لكن سرعان ما ارتفع سقف المطالب عندما رأى المحتجون أن صراخهم لم يجدِ نفعاً، فوثبت مطالبهم للدعوة إلى تنحي الرئيس عمر البشير، وإسقاط نظامه الذي حكم البلاد نحو ثلاثة عقود، كأطول نظامٍ يسيطر على الحكم في السودان. ربما لو أعار النظام هذه المطالب اهتماماً منذ انطلاق التظاهرات في أول أيامها، لكان الوضع مختلفاً عما هو عليه اليوم، لأن المطالب كانت موضوعية، والمشكلة معترف بها، ولابد من الدواء الناجع. لكن دائمًا تأتي رياح التغيير في موسم الجدب والقحط، فتثير الأغبرة التي تزكم أنوف القادة، فتؤرق مضاجعهم، وتعج الشوارع بما لا تشتهي آذان الساسة في بلادنا العربية والإسلامية.
والثورات الشعبية ليست غريبة على السودانيين، فقد قاد هذا الشعب ثورتين شعبيتين، أطاحتا حُكمين عسكريين، أولهما عام 1964، على حكم الفريق إبراهيم عبود، والثانية عام 1985 وأطاحت حكم الرئيس جعفر النميري، كانتا رائدتين في تاريخ الثورات الشعبية العربية المعاصرة. وكان الجيش قد انحاز في كليهما لإرادة الشعب. يرى مراقبون أن السودانيين قد تأخروا كثيراً في اللحاق بركب الربيع العربي، على الرغم من قساوة الظروف التي اجتاحت هذا البلد، وأنهكته وأقعدته عن النهضة والتقدم، بسبب الحروب التي قطعت أوصاله، والسياسات العقيمة التي كبلته ردحاً من الزمن، لكن الشعب السوداني يعرف متى وكيف ينتزع حقوقه وحرياته، من غير أن ينساق إلى أنفاقٍ مظلمة ومآلات وخيمة.
كانت الحكومة قد استبقت مطالب الثوار بتغييرٍ طال أعلى هرمية أجهزتها التي غلبت عليها الصبغة العسكرية والأمنية، مع إعلان حالة الطوارئ في البلاد، وبقاء الرئيس البشير في منصبه، ما ألهب حماس الثوار لمواصلة حراكهم، وتجديد مطالبتهم بتنحي الرئيس البشير، متجاهلين دعواتِ حوارٍ من قبل النظام، لعلها لم تشفِ غليل الصدور، جراء قمعٍ يقول النشطاء أنه مفرطٌ، مع صعود أرواح عدد من الشهداء، وسقوط جرحى، ومعتقلين سياسيين، وغيرهم.
فما هو التغيير الذي يريده السودانيون؟ التغيير الذي سيخطب ود السودانيين، وينال رضاهم، هو تغيير يستشِفّون نتائجه التي تنعكس على معاشهم وحياتهم اليومية، إذ لا يخفى على أحد الارتفاع المتزايد في الأسعار، مع عدم وجود ضابط، أو رقابة، تحكم الأسواق، حتى شقّ على الناس الحصول على أدنى متطلبات الحياة إلا بشق الأنفس. كما يجب أن تعود الخدمة المدنية إلى سابق عهدها، تضبطها الكفاءة والمهنية من غير محسوبية ولاجهوية ولا انتماءات سياسية، والخروج من دولة الحزب إلى الدولة المدنية، ودولة القانون والعدل والمساواة والكفاءة والنزاهة والشفافية، نهوضاً بقطاعات الإنتاج، وتشجيع قطاعاته، ودعم الشباب، والعمل على تفجير طاقاتهم الجبارة في استصلاح الأراضي، ومشاريع التنمية، والبناء، وتبني مواهبهم وأفكارهم، ورسم الخطط والبرامج المستقبلية، بما يعود بالنفع على المجتمع، وينمي فيهم الريادة والابتكار.
كما أن في حُلُوق سودانيين كثيرين غصة، وهم يرون الفساد الذي يستشري في هيكل الدولة، ويضرب كثيراً من مؤسساتها، فالناس ينتظرون أن يروا رد المظالم إلى أهلها، ومحاكمة كل من تثبت عليه تهمة الفساد، من غير تحلّل وتحايل على القانون، فالناس سواسية أمام العدالة، لا فرق بين شريف ووضيع وحاكم ومحكوم. كما تريد الشعوب من حكامها بسط مزيد من الحريات في التعبير عن نفسها، وإيصال رسالتها، مع بسط مساحة للرأي والرأي الآخر. لقد كان إهمال هذا الحق والتعدّي عليه هو الدافع الأساس في تفجير ثورات الربيع العربى، وكأن الشعوب كانت تردد مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مقولته: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً. .. كانت أغلب شعوب هذه الدول في رغد من العيش وأمن وسلام، لكن الأنظمة الحاكمة كانت تستلب حريتهم، وتُكمم أفواههم، فعندما هدرت الجماهير لم تشفع لهم السنون السِمان، وﻻ العجاف.
الحاجة للتغيير اليوم ملحة، وإن كانت باهظة الثمن، ولكن يجب أن نجنب بلادنا الانزلاق وراء الفتن والصراعات، مع حفظ أمنها وسلامة مواطنيها، وصون كرامتهم وحقوقهم، والعمل على نهضتها جنوداً للوطن، متجاوزين المحن من أجل مجدها وعزها.
6397A895-D6E7-4F34-AF1B-0ED59CC60F53
6397A895-D6E7-4F34-AF1B-0ED59CC60F53
مصعب محجوب الماجدي (السودان)
مصعب محجوب الماجدي (السودان)